"الشيء إن زاد على حده انقلب إلى ضده".. هي حكمة قديمة نعرفها جميعًا، ومن النماذج التاريخية العملية لها مسألة تمدد الإمبراطوريات وتوسعها..
فقلما وُجِدَت إمبراطورية مترامية الأطراف لم تُصبها آفة "الإنهاك" في رحلة الحفاظ على مكتسباتها من الأقاليم المنضوية تحت رايتها. الأمر أشبه بمن يأكل بشراهة وقد أصبحت شهيته غير محدودة فتتضخم بنيته، ثم تتحول نعمته نقمةً وتصبح ضخامته عبئًا على أعضائه الداخلية فيصاب بأمراض التخمة والسمنة.
وأمراض "تخمة الدول" هنا هي قائمة ليست بالقصيرة، تبدأ بإرهاق مركز الدولة بالعمل على إخماد التمردات هنا وهناك سواء لنقمة بعض الشعوب على حكمها أو لأطماع بعض الولاة في الاستقلال بما يتولون من بلدان، إلى جانب الدفاع عن حيازة تلك البلدان ضد أطماع إمبراطوريات منافسة. ويزيد الطين بلة إن كان اعتماد الدولة في جيشها على عنصرها العرقي المؤسس دون غيره من الأعراق الخاضعة لحكمها، حتى إذا ما أنهكها عجز الطاقات البشرية، قررت فجأة أن تجند أبناء الأقاليم الأخرى. ففي هذه الحالة، يصيب جيشها الانقسام، وتكثر فيه حالات "التسرب والفرار من القتال" إضافة إلى احتمالية الانضمام إلى العدو نكاية في المحتل. بل قد يحدث أن تشعر بعض فئات المجندين بقوتها فتقرر مهاجمة مركز الدولة.
وأشهر نموذج قديم لذلك هو الإمبراطورية الرومانية، التي بقيت تزدرد البلدان بشراهة منذ عصر الجمهورية وطوال العصر الإمبراطوري، حتى إذا ما أصبحت تسيطر على كل قارة أوروبا وشمالي إفريقيا وغربي آسيا، وراح النسر الروماني يرتفع على مساحات شاسعة من العالم القديم، استسلمت روما لعصا الإنهاك من الحروب، وأصبحت في حاجة لتجنيد عناصر غير رومانية ولا إيطالية، فوجهت نظرها إلى القبائل الجرمانية، وراحت تتوسع في تجنيدها، ولكن الجرمان لم ينسوا نقمتهم على من لطالما احتلوهم وأنهكوهم بالضرائب والقمع والدسائس وضرب بعضهم ببعض، فاتحد الجرمان وراء الملك "ألاريك الجسور" وتحولوا إلى غزاة، واجتاحوا روما نفسها مجبِرين أباطرتها على الهرب إلى الجنوب، ثم تسلطوا على الحكم، ليعلنوا أخيرا وفاة الإمبراطورية الرومانية، وتنقسمَ تلك الإمبراطورية بين ورثتها الذين هم في الغالب من الأصول الجرمانية.
لماذا وقعت تلك المأساة؟ لأن الرومان لم يعتمدوا في ضمهم البلدان سوى القوةِ الباطشة للنسر الروماني. كانوا دولة "تأخذ ولا تعطي". وبالنسبة لها، كانت البلدان الخاضعة مجرد ثروات مادية وبشرية ومواقع استراتيجية. فلما تنبهت لذلك وسعت لإشعار الرعايا بأن الدولة تُعنى بأمرهم وقامت ببعض المحاولات للإصلاح، لكن كان الأوان قد فات، والعد التنازلي للسقوط الروماني قد اقترب من الصفر..
بعد قرون، وقع العثمانيون في الخطأ نفسه، فراحوا يتوسعون في الجهات الأربع من القارات الثلاث، ولكنهم اعتمدوا في السيطرة والوحدة على القوة وحدها. لم يخلقوا سببًا آخر للشعوب لترغب في البقاء تحت العلم العثماني. فلما ضعفت دولة العثمانيين، رأت تلك الشعوب فرصتها في التحرر من ربقة ذلك الحكم، فراحت الثورات والتمردات تنهال على رأس الباب العالي في اليونان ورومانيا وصربيا والبوسنة وبلغاريا والعراق ومصر والشام وغيرها.
ومما يؤسِف أن تفسير العثمانيين آنذاك - وكذلك يرى العثمانيون الجدد والمدافعون عنهم حاليًا- لتلك الثورات، كان تعليقها على "شماعة" التآمر الاستعماري الأوروبي على "الدولة العلية" و"المسلمين"، رغم أن الحكمة تقتضي أن يكون المرء حين يخفق في مسعى أو يصاب بمكروه يطرح على نفسه هذا السؤال: "ما الخطأ الذي ارتكبته أو قد أكون ارتكبته؟" ثم بعد أن يراجع أخطاءه يبحث عن أية عوامل "خارجية" أخرى قد تكون سببا فيما أصابه.
إذن، ماذا كان على العثمانيين أن يفعلوا ليجعلوا الشعوب التي حكموها أكثر تمسكًا بحكمهم؟
الإجابة: إشباع "الاحتياج".. تعال نفكر بعقلية "التسويق".. هب أن لديك مُنتَجَا - ماديًا أو معنويًا - وتريد تسويقه، الذكاء يقتضي أن تخاطب في حملة ترويجك له "احتياج" الفئات المستهدفة.
قد يبدو هذا المنطق للبعض "حديثا" بعض الشيء، ولكنه في حقيقة الأمر منطق إنساني قديم جدًا، وله نماذج تطبيقية ناجحة..
خذ عندك مثلًا الإسكندر المقدوني، استطاع أن يوحد اليونان ثم اجتاح الإمبراطورية الفارسية في آسيا وبلغ حدود الهند، وامتلك الشام ومصر. وفي كل تلك التوسعات كان -غالبًا- ما يلقى الترحيب، أو على الأقل، كان ينجح في فرض الاستقرار حتى وإن سبقته مقاومة شعوب هذا البلد أو ذاك له.. كيف؟
ببساطة لأن الإسكندر كان يخاطب "الاحتياج" عند شعوب البلدان المفتوحة. ففي اليونان خاطب سأم الإغريق من الحروب المستمرة بين المدن اليونانية وعلى رأسها أثينا وأسبرطة، وكذلك خاطب رغبة جمعت اليونانيين كلهم في الانتقام من الإمبراطورية الفارسية التي اجتاحت بلادهم منذ زمن ليس قبل الإسكندر بكثير..
في البلدان التي انتزعها من الفُرس، خاطب احتياج أهالي هذه المناطق للشعور بالاحترام لثقافاتهم المحلية، فأظهر الإسكندر احترامه لها إلى حد ارتدائه الملابس المحلية وتشجيعه جنده على تقليده، وصاهر بعض بيوتها.
في مصر رحب المصريون بالإسكندر بل ونصبه الكهنة ابنًا لآمون، لأنه أدرك أن مفتاح المصري يكمن في شعوره بأنك تحترم موروثاته ونمط حياته، وأنك ترغب في أن تخلق رابطًا مع ثقافته.
هذا السلوك لم يكن بالنفاق من الإسكندر للشعوب، وإنما كان تعبيرًا عن إيمانه بفكرة "مزج الثقافات والحضارات"، وهو ما نعبر عنه تاريخيًا ب"الهيللينستية" وهو مصطلح يعني امتزاج الثقافة اليونانية بالثقافات الشرقية.
هذا النهج جعل الشعوب التي حكمها الإسكندر في عمره القصير تشعر بأنها "جزء من مشروع إنساني كبير" وخلق نوعًا من الولاء للفكرة.
المنهج الذكي نفسه طبقه المسلمون الأوائل في فتوحاتهم، إذ أدركوا أن الشعوب التي دخلوا أقاليمها تعاني من احتياجات متنوعة، فأبناء بادية الشام والعراق كانوا يعانون من الاحتياج للشعور بأنهم أكْـفاءٌ في القوة والعزة والمنعة للفُرس والروم الذين لطالما احتلوا تلك المنطقة وأخضعوا عربها وأقحموهم في صراعاتهم فحولوا "الأسد المقتنص للفرائس" مجردَ "كلب حراسة للإمبراطورية".. وأبناء مدن الشام كانوا يعانون من الصراعات المذهبية بين اليعاقبة والنساطرة والملكانيين، إلى جانب معاناة يهودهم من الاضطهاد البيزنطي.
وأبناء العراق كانوا يعانون الفساد المالي الفارسي وتَجَبُر الولاة والدهاقين (مفردها دهقان وهو يشبه عمدة/مختار القرية) في جمع الضرائب.
وفي مصر كان المصريون يعانون طغيان البيزنطيين واستنزافهم كل ما يملك المصري، إضافة إلى اضطهاد معتنقي المذهب القبطي الأرثذوكسي.
فكان على الفاتحين الأوائل في عصر الخلفاء الراشدين مخاطبة كل فئة بتلبية احتياجها، وإشعارها بأن ضمان استمرار تلبية هذا الاحتياج مرهون ببقاء الدولة الإسلامية، (وهي حكمة للأسف غابت عن الدولة الأموية مما أدى في النهاية إلى سقوطها).
هذه هي الحكمة التي افتقر إليها العثمانيون الذين بقوا - رغم تركهم الخيام إلى القصور وانتحالهم بروتوكولات الملوك والأباطرة- يفكرون بمنطق الغازي القبلي نفسه الذي يتسم تفكيره بقِصر النظر وتُختَصَر أسبابه في السلاح والجند والقوة الباطشة..
فكان اعتمادهم في ولاء الشعوب فقط على "القوة" التي يمكن أن تجبرك على الولاء الخارجي الظاهري، لكنها لا تغرس في داخلك الولاء القائم على الإيمان بالنظام الحاكم. ثم كان من الطبيعي إذن حين تستشعر تلك الشعوب ضعفًا من السلطة المركزية العثمانية أن تنتهز الفرصة وتهب للتحرر من القهر العثماني الجاثم على رقبتها.
لينضم العثمانيون إذن إلى الرومان في هذا الدرس القاسي من دروس التاريخ..