خدعهم، وادعى أنه رجل مبروك، وأمَّهم في صلاة ركعاتها طويلة وسجداتها أطول، ثم أومأ لصاحبه عند إحدى السجدات بأن يقوم للهرب معه، حاملين كل الأموال والاغراض.
وبعدها أنشد يقول:
لاَ يُبْعِدُ اللهُ مِثْلـي * وَأَيْنَ مثْلِي أَيْنَـا؟
للهِ غَـفْـلَةُ قَـوْمٍ * غَنِمْتُهَا بِالْهُوَيْنَـا
اكْتَلْتُ خَيْراً عَلَيْهِمْ * وَكِلْتُ زُوراً وَمَيْناً
بهذه الأبيات يتحدث أبو الفتح الإسكندري، وفقا لما يرويه عيسى ابن هشام، عن إحدى الحيل المقرونة بالتسول، التي نجحا فيها، وحفظتها سطور "المقامة الموصلية"، إحدى أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني، مخترع الشخصيتين الخياليتين الشهيرتين، والذي اخترع معهما وبهما فن المقامة، الذي يقوم على السجع والبلاغة والحكاية، جاعلا من التسول والاحتيال وكل ما يقوم به شذاذ الآفاق مواضيعا للبطولة والظرافة.
وفي كتابه البالغ الأهمية، الذي يحمل عنوان "تراثنا كيف نعرفه"، يقف الكاتب والمفكر اليساري اللبناني حسين مروة، وقفة طويلة عند السر الذي جعل فئة مهمشة ومنبوذة، ينظر إليها باحتقار، تحتل موقع البطولة في فن حديث العهد بالولادة، فالرجل وهو يخوض في بحث أسباب نشوء فن المقامة ومن أنشأها، انتهى أيضا إلى أن بلوغها مداها مع بديع الزمان الهمذاني، قد وفر المنصة المناسبة ليتكلم من خلالها أولئك الشحاذون، من طينة أبي الفتح الإسكندري، في ذروة انتشارهم، وإن بلسان الأدب وبديع اللغة وغريبها أحيانا.
يبدو إذن أن التريندينغ قديم قدم المنصات التي يوفرها الشعر تارة أو المسرح تارة أخرى أو الأدب الشعبي، وما شابه، فالأمر مرتبط في جميع صوره، وعبر العصور بتوفر الأشخاص الذين يتجاسرون على الطابوهات لدواعٍ نفسية أو اقتصادية، أو بسبب الحمق العقلي، أو باعتبار امتلاك الرأي، ومن ثمة يطفقون نحو البحث عما تجود به إمكانيات العصر من أدوات للتعبير، ولعل الناظر اليوم ببعض التفحص لكمِّ ما بات يعرف في فضاءات التواصل الاجتماعي بـ"المؤثرين" سيكتشف سريعا أن الأمر يتعلق بشكل جديد فقط لظاهرة قديمة.
إن امتعاض أقسام هامة اليوم من نخبنا حيال ما يصفونه بـ"التفاهة" و"الرداءة"، قد لا يكون سوى تعبير عن فشل الكثير ممن ينتمون إلى تلك النخب في ممارسة التأثير الذي كان مألوفا قبل شيوع وذيوع هذه الوسائط، حيث أعطت المكروفون لكل إنسان لكي يتحدث، ويصير بإمكانه أن يتحول إلى "نجم" حسب ما تتيحه خوارزميات تلك الوسائط، لكن وهي تؤسس لترويجها لمحتوى ما بناء على الانتخاب الثقافي الذي توفره البنيات السوسيولوجية، بينما تعمل قوالب ما بعد الحداثة، ومن منطلق تشظي مَواطن الحقيقة على كل مكان في العالم، على تمكين الجميع من المساهمة بقدر ما في صوغ معالم تلك "الحقيقة".
لكن الذي ينبغي الانتباه إليه في حقيقة الأمر، هو أن السبب الحقيقي الذي يجعل جيوش أسياد التريندينغ هؤلاء يصبحون "أبطالا"، يتحدث عنهم القاصي والداني، المثقف والجاهل، ليس هو فقط ذاك المرتبط بما سلف ذكره، بل هو جموع الناخبين، الذين يتابعونهم، وهم في هذا يشكلون نسيجا يكون الفرد فيه متابعا لهؤلاء الأسياد، وبالتالي ميسرا لتصييرهم كذلك، وفي الوقت نفسه يكون متابعا للمحتويات المحترمة، وقد يكون متابعا حتى لكرة القدم، والأفلام الإباحية، والمحاضرات الجامعية المرموقة، وذلك بقدر ما يحمل كل واحد منها هوية متراكبة من تداخل هويات وانتماءات متضادة أحيانا، في حين تأتي الخوارزميات المذكورة لتعطي السبق للمحتويات التافهة والرديئة تلك، مادامت صناعتها سهلة، وبالتالي تصبح متوفرة، بخلاف المحتويات الجادة التي تحتاج وقتا وجهدا وخبرة للصناعة، ما يجعلها نادرة، وبالتالي لا تتمكن من احتلال موقع "السيادة" على التريندينغ.
ومن ناحية ثانية، فإن المجتمع الذي يهتم كثيرا للترفيه عن نفسه بمتابعة السلوكات الغريبة، ويتنمر بملء طاقته على الزلات والنقائص التي تبدر من بعض أفراده، هو في الحقيقة الذي ينتبه لشخص تعثرت قدماه وسقط، دونما الاهتمام بالكثيرين الذين يمشون بسلام، ما يوحي بأن هؤلاء الذي يملأون التريندينغ اليوم، كانوا على مر العصور يملأون نواصي الشوارع، يشكلون مادة دسمة للتندر والتنمر على حد سواء، وأحيانا "العقاب الهمجي"، على النحو الذي يذهب إليه ميشيل فوكو في حفرياته المعرفية حول "الجانح" والمجنون" والشاذ الجنسي" في المجتمعات الوسيطية، ولم يتغير حيالهم شيء سوى أن النكات والقصائد والمسرحيات قد حلت محلها الهواتف والكاميرات وصفحات التواصل الاجتماعي، علاوة على أن هذه الوسائط باتت توفر للكثيرين منهم دخلا مادامت حاجتها إليهم قائمة لاستقطاب المشاهدين، وتمرير وصلات الإشهار.
وفي وجه كل هذا، يغدو من المُلحّ الحديث عن دور الدولة، ليس بما لها قدرة على المنع والحيلولة دون استمرار هذا النزيف، الذي يصطدم أحيانا بالقوانين، وأحيانا أخرى بمنظومة الأخلاق العامة، فقط، ولكن بما لها أيضا من قدرة على تأطير الظواهر المستجدة، والتي لا تتوقف عن التشكل والتطور بأي حال من الأحوال، بحيث يكون بوسعها تنظيم إنشاء المنصات على مواقع التواصل الاجتماعي، ووضع قوانين توازن بين الحرية والمسؤولية، وتكفل للدولة إمكانية مراقبة مداخيل هؤلاء، بما في ذلك تضريبها، وهو ما يعطي للدولة الحديثة معناها الذي يجعلها كيانا غير هلامي، ولا يترك بياضا في أي مكان.
بيد أن الحصانة الوحيدة حيال كل هذا الركام، داخل بنيات المجتمع وبين أفراده، توجد فقط عند من لديهم اشتغال مسبق على الفكر والأيديولوجيات، ليجد قسم كبير من الشباب الحالي نفسه في غمرة خوارزميات التواصل الاجتماعي ومواقعه، وهو ليس محصنا حيالها، وواقع الأمر أنه بات من الملح أن تتلاءم المنظومات التربوية مع هذا المعطى، وأن يصبح "التواصل الاجتماعي والقيم" مادة أساسية ضمن برامج التدريس في جميع المستويات، كي لا تجني على نفسها براقش، ولا نضيع اللبن كل صيف.