اتضح أن هناك قوى أخرى تتحكم في الأزمة الليبية، وتحاول توجيه الحلول بعيدا عن الأمم المتحدة والقوى العربية وحتى الإرادة الليبية ذاتها.
فالإرادة الشعبية الليبية صاحبة الشأن الأول في ليبيا، والتي حملتها معظم القوى الفاعلة في الشأن الليبي مسؤولية استعصاء الحل وتعقيد الأزمة، عبرت عن نفسها في شكل ترحيب كامل بالسلطة الجديدة، صارفة نظرها عن أسماء أفراد هذه السلطة وانتماءاتهم المناطقية، بما يعني أن الإرادة الليبية تجاوزت فعليا وبشكل كبير معايير الاختيار السابقة التي تسببت في جزء كبير من الأزمة خلال العشرية الدموية منذ 2011.
وصاحبت ظهور السلطة الجديدة مجموعة من الإشارات الإيجابية للداخل الليبي صاحب الشأن أولا نحو توحيد المؤسسات الليبية، وإجراء المصالحة الوطنية، وتعزيز الثقة بين أبناء الوطن الواحد، والابتعاد عن النعرات، والانتهاء سريعا من المرحلة الانتقالية، والتجهير للانتخابات في 24 ديسمبر القادم.
كما وجهت السلطة الجديدة إشارات إيجابية للخارج المتمثل في دول الجوار كمتضرر ثان من الانفلات المصاحب للأزمة الليبية وفي مقدمتها مصر، وللدائرة الأوسع المتمثلة في الدول الراعية للسلام والاستقرار بمكافحة الإرهاب وفي مقدمتها الإمارات، إضافة إلى الإشارات الإيجابية من هذه السلطة الجديدة للقوى الدولية المتمثلة في البعثة الأممية التي رعت خروجها إلى دائرة الفعل في جنيف، ومع ترحيب الغالبية الشعبية التي تقاس بها وعليها الإرادة الليبية، ومع الانتقال النوعي في مسارات التقييم الشعبي من القبلي والجهوي والشخصي إلى القدرة على الفعل والإنجاز وتجاوز أزمات الماضي، والتوجه نحو المستقبل بخطوات تبدأ بإخراج القوات الأجنبية المتدخلة في الشأن الليبي، والانتصار للمبادئ الوطنية، وتوحيد المؤسسات، وتفكيك الميليشيات ونزع السلاح، كلها إشارات جاءت انعكاساتها فورية في شكل استحسان وترحيب القوى العربية والدولية التي سارعت بدورها إلى إرسال رسائل استجابة وطمأنة ومساعدة للشعب الليبي وسلطته الجديدة، للانتقال نحو ليبيا جديدة تحاول تأسيس مستقبلها على مؤسسات شرعية وأركان قوية ومبادئ عليا.
لكن كل ما سبق من إشارات إيجابية من السلطة الجديدة واستقبال إيجابي من معظم القوى الشعبية والإقليمية والدولية، يبدو أنه اصطدم بمصالح البعض الذي راح يفتش عن عقبات وألغام ليضعها في طريق هذه الحالة حتى قبل أن تبدأ فاعليتها، إذ استمرت تركيا في ضخ المرتزقة وشِحنات السلاح إلى غرب ليبيا، مع استمرار تدريب الميليشيات وظهور أصوات جهوية وأوراق ضغط تشكك في أفراد السلطة الجديدة، مع أصوات أخرى تعبر عن عدم اتفاق على مكان محدد لمنح الثقة للسلطة الجديدة للبدء في اتخاذ خطوات جادة نحو الحل الكامل حتى وإن كانت تدريجية.
فالتجارب الإنسانية لم تشهد قط انتقالا فوريا من انفلات مطلق وانقسام مؤسسي ووجداني مع وجود متدخلين ومتداخلين في الشأن المحلي مثل الحالة الليبية إلى استقرار كامل إلا بعد خطوات مرحلية، يأتي في مقدمتها خروجُ المتدخل الأجنبي بجميع أدواته، ورأب الصدع المؤسسي بتوحيد المؤسسات، وتعزيز الروح الإيجابية داخليا، وتحرير الإرادة الوطنية كمرحلة أولى تكون أساسا للمراحل الأخرى.