في مذكراته التي حملت عنوان "مذكرات الدعوة والداعية"، يقول حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان: "أوصي الذين يعرضون أنفسهم للعمل العام ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة، فذلك أروح لأنفسهم وللناس، وأبعد عن فساد التعليل وسوء التأويل".

ووصية البنا تلك سببها كما يقول، هو عثور النيابة عام 1943 على مذكراته، مما كان سببا فيما لاقاه من عنت وإرهاق من جهة المحقق على حد وصفه.

غير أن هذا لم يمنع البنا نفسه من كتابة مذكراته لاحقا، ولم يمنع كذلك كثيرا من قيادات الإخوان ممن عاصروا البنا أو جاءوا بعده من مخالفة تلك الوصية، وتسجيل شهاداتهم وتدوين مذكراتهم، وهذا من حسن حظ البلاد والعباد حتى لا نقع في "فساد التعليل وسوء التأويل"، فلو أنهم لم يفعلوا لما تمكنا من كشف أكاذيبهم ولا معرفة مواطن فسادهم.

أكاذيب أديب الدعوة

طويلة هي قائمة قيادات التنظيم الذين كتبوا مذكراتهم وسجلوا شهاداتهم عن التنظيم ومسيرته الدامية، إلى الحد الذي تضيق به مساحة الكتابة، لكننا سنتخير كتابا واحدا هو كتاب "قذائف الحق" للشيخ محمد الغزالي الذي أطلق عليه مؤسس التنظيم لقب أديب الدعوة.

في هذا الكتاب يقول الغزالي تحت عنوان "تقرير يفضح النوايا المبيتة للإسلام"، إنه تقرير اللجنة المؤلفة برئاسة السيد زكريا محيي الدين رئيس الوزراء وقت كتابة التقرير في ستينيات القرن الماضي، بشأن القضاء على فكر الإخوان.

وهذه اللجنة حسب كلام الغزالي تم تشكيلها بناء على تكليف رئيس الجمهورية آنذاك جمال عبد الناصر، وضمت رئيس الوزراء وقائد المخابرات العامة وقائد المباحث الجنائية العسكرية ومدير المباحث العامة ومدير مكتب المشير عامر، كل هؤلاء حسب التقرير الذي ينقله الغزالي دون أن يخبرنا من أين وكيف حصل عليه، اجتمعوا للقضاء على فكر الإخوان الذي اعتبره الغزالي هو الإسلام.

ويواصل الغزالي في كتابه سرد ما يقول إنه تقرير صادر عن تلك اللجنة وممهور بتوقيع أعضائها، لبيان فظائع لا يقبلها العقل والمنطق، فضلا عن أن تصدر عن لجنة بهذا المستوى، فعلى سبيل المثال يقول التقرير: بعد 10 اجتماعات للجنة في مبنى المخابرات العامة توصلت اللجنة لخطة متكاملة، من بنودها سلسلة ملاحقات لأعضاء الجماعة ومصادرة أموالهم وفصلهم من وظائفهم والعمل على فضحهم أمام الرأي العام، إلى جانب إعادة النظر في تدريس الدين الإسلامي بالمدارس والتضييق على أسر الإخوان، مما سيدفع نساءهم للتحرر والتمرد بسبب غياب العوائل، مما سيؤدي لمنع أبناء الإخوان من التعليم والدفع بهم للعمل كحرفيين، إلى آخره مما يمكن مراجعته لمن يريد في هذا الكتاب.

الكذابون الثلاثة

ومنذ صدور الكتاب وحتى عدة سنوات خلت، كان الإخوان يستخدمون هذا التقرير المزيف في معاركهم السياسية، ويحفظونه لأعضائهم حتى عام 2008.

ووفقا للمهندس أبو العلا ماضي رئيس حزب الوسط وأحد قيادات الإخوان سابقا، فقد أخبره المهندس الإخواني مراد جميل الزيات وكان أمين عام نقابة المهندسين وقتها أنه اعتقل منذ عام 1965 وحتى عام 1971، وجاءت لهم هذه الوثيقة داخل السجن، وأنه حين خرج من السجن سافر إلى خارج مصر والتقى القيادي الإخواني المعروف بوزير مالية الإخوان يوسف ندا وحكى له ما تعرض له الإخوان من فظائع مستشهدا بتلك الوثيقة، فما كان من ندا إلا أن ضحك وقال له إنه هو من كتب هذه الوثيقة بخط يده، وأمر بتوزيعها لأن الحرب خدعة على حد قوله.

وتكتمل قصة الوثيقة المزيفة من ناحية أخرى، عندما كان الدكتور محمد سليم العوا المحامي والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية مع عدد من أعضاء حزب الوسط آنذاك، وحين تحدثوا مع العوا عن تلك الوثيقة أخبرهم أنه يعرف بأمر فبركتها منذ 40 عاما، بل ويحتفظ بالنسخة الأصلية من تأليف يوسف ندا في مكتبته، وعندما سألوه لماذا لم تكشف هذا التزييف؟ قال: أنا مالي!

نحن هنا أمام "كذاب مؤسس" هو يوسف ندا الذي يحفل تاريخه بسيل جارف من الأكاذيب، و"كذاب ناقل" وهو الشيخ محمد الغزالي الذي إن كان يعلم بفبركة الوثيقة فهو شريك أصيل في الكذب مما يدفعنا لعدم تصديق ما يكتب، وإن كان خدع هو الآخر فهو أيضا يفقد قدرا هائلا من مصداقيته، و"كذاب متواطئ" وهو العوا الذي علم بتزييف الوثيقة وفبركتها ولم يعلن ذلك، والحقيقة أن تاريخ الإخوان وقياداتهم مليء بالنماذج الثلاثة.

التقرير الرهيب

وفي كتاب "قذائف الحق" لصاحبه محمد الغزالي، نشير إلى تقرير آخر نشره الغزالي بالكتاب تحت عنوان "تقرير رهيب"، قال إنه حصل عليه "عن غير قصد" في مارس عام 1973، ويكشف خطة البابا شنودة لتحرير مصر من العرب والمسلمين في خطاب ألقاه في اجتماع سري داخل الكنيسة المرقسية الكبرى، وقد تم تكذيب هذا الأمر جملة وتفصيلا لاحقا من قبل لجنة تقصي الحقائق المتعلقة بالأحداث الطائفية، لكن الغزالي لم يعر هذا الأمر اهتماما، والخطير أن لجان الإخوان الإلكترونية كانت قد أعادت توزيع هذا التقرير المزيف بعد إطاحة حكمهم في مصر بعد ثورة 30 يونيو لتأجيج الفتنة الطائفية مرة أخرى.

ولتكن لدينا هنا وقفة بعيدا عما تضمنه "التقرير الرهيب" من أقوال لا يصدقها عقل، فكيف حصل الغزالي على التقرير "عن غير قصد " كما قال؟ هنا لدينا احتمالان لا ثالث لهما، فإما أن التقرير من تأليف الإخوان تماما كما كان تقرير يوسف ندا وهو السيناريو المرجح، أو أنه من وضع أجهزة الأمن وأعطته للشيخ الغزالي لاستخدامه وهو سيناريو غير مستبعد، فإن كان الاحتمال الأول فتلك كذبة أخرى يتورط فيها الشيخ الغزالي، وإن كان الاحتمال الثاني فسنكون أمام تعاون بين الشيخ وأجهزة الأمن، وهذا يقودنا لملف ضخم يفتح أبوابا واسعة للحديث عن أكاذيب الإخوان وتعاون عدد من قياداتهم مع الأجهزة الأمنية في مختلف العصور.

وأخيرا فإذا كان هذا حال الغزالي الذي كان يقدم كواحد من شيوخ الوسطية والفكر المستنير، فما بالنا بغيره من القيادات التاريخية للجماعة الذين عاشوا ليكذبوا وكتبوا ليدلسوا وتحدثوا ليقلبوا الحقائق ويزيفونها، وما بالنا بعناصر الإخوان المنتشرين في شتى أصقاع الأرض حاليا يبثون سموم أفكارهم وخبائث ممارساتهم ليزيفوا الوعي ويشوهوا التاريخ ويسرقوا المستقبل؟