رَزحت إفريقيا لردحٍ طويلٍ من الزمن للاستعمار الأجنبي الذي نَهب ثرواتها، وسَلب مقدراتها، وقَطّع أوصال الشعوب الإفريقية بوسائل عنصرية عديدة.
ولم يشأ الاستعمار الأجنبي أن يرحل عن القارة المَكلومة إلا بعد أن قسّمت الإمبراطوريات والدول الاستعمارية الأوربية المغانم الإفريقية، عن طريق تعيين الحدود بين الدول الإفريقية بخطوط جارت، وقست، وفصلت بين الأمم والشعوب والقبائل الإفريقية، التي لم تكن لتعرف الحَد، ولم تُخَّبر بالتخم، إلا قسراً وجبراً من لدن المستعر الأبيض.
تَزخر كثير من دول العالم بنزاعات حدودية تجر حكوماتها وشعوبها لحروب ونزاعات قد تمتد ربما لقرون في حالات معينه، بيد أن القاره الإفريقية تَميزت عن القارات الأخرى سواء أميركا الجنوبية وآسيا وأوروبا بكثرة النزاعات التي تثور بين الفينة والفينة بين دولها حول تعيين أو وترسيم حدودها، ويُعد النزاع الحدودي القديم الجديد بين السودان وأثيوبيا مثالَا صارخًا وبرهاناً ساطعاً للنزاعات الحدودية الإفريقية، ولذلك نجزم ببزوغ في السنوات الأخيرة، أَمارات ودلائل القانون الدولي للحدود، ويعُد الأخير نتاجاً لكتابات الثقاتِ من فقهاء القانون الدولي فضلا عن أحكام القضاء والتحكيم الدولي، فرسخت العديد من المبادئ العامة والأساسية التي تنظم كيفيه تعيين الحدود الدولية سواء البريه أو البحرية بين الدول.
نظراً لأن المقام لا يتسع لسرد كافة المبادئ العامة والأساسية للقانون الدولي للحدود الدولية، سنعرض، وباختصار غير مخل أهم هذه المبادئ، ولكن الأهم في ذات المضمار أن نشير إلى أن المقصود بذلك القانون هو مجموعه المبادئ العامة الناظمة التي ينبغي أن تكون موضع اعتبار أطراف النزاع حين يقوموا سواء بذاتهم أو عن طريق تدخل طرف ثالث بتسوية ما يثور من نزاع بينهم، مُتوسلين في ذلك الشأن بالوسائل الدبلوماسية المعروفة أو الوسائل القضائية، وهذه المبادئ تبدو متكاملة ومتشابكة، وتهدف هذه المبادئ لهدف رئيسي وهو التثبيت الدائم للحدود الدولية بين الدول المتجاورة سواء كانت بريه أو بحريه.
يُعد مبدأ التسوية السلمية للنزاعات الحدودية أحد المبادئ القانونية الدولية الراسخة، حيث يلزم المبدأ الدول المتنازعة باللجوء للتسوية السلمية لهذه النزاعات، كما يحظر عليها في الوقت ذاته اللجوء إلى القوة المسلحة أو التهديد بها لتسويه هذه النزاعات، ولا تختلف هذه الوسائل عن تلك التي نصت عليها المادة 33 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وهي المفاوضات، والوساطة، والتوفيق، والتحقيق، والتحكيم، والقضاء، واللجوء إلى المنظمات والوكالات الدولية والإقليمية، أو أي وسائل أخرى تختارها الدول المتنازعة.
أقَرت جميع الاتفاقيات الحدودية مبدأ عدم تغيير الحدود القائمة بالقوة، ويستثني ذلك المبدأ التغير الجوهري في الظروف من إمكانيه لجوء الدول لإنهاء أو التحلل من اتفاقيه تعيين الحدود الدولية، أيضا يأتي ذلك المبدأ إعمالا للفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق منظمه الأمم المتحدة، حيث نصت على: يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوه أو استخدامها ضد سلامه الأراضي أو الاستقرار السياسي لأي دوله أو على أي وجه أخر لا يتفق مع مقاصد الأمم المتحدة، لذلك يحظر على الدول أن تلجا لاستخدام القوة المسلحة أو التهديد باستخدامها في مواجهه دول أخرى، والمبدأ المشار إليه مُقَدّم على أي التزام آخر ويمتد نطاق المبدأ ليشمل أيضا الدول غير الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة وذلك بالنظر لكون خرق ذلك المبدأ من شأنه أن يهدد السلم والأمن الدوليين.
أما مبدأ الصحيفة البيضاء في تعيين الحدود الدولية، فيُقصد به صرف النظر وبشكل كلي عن كافة المعاهدات السابقة التي أبرمتها الدولة المُوَرِثة خاصة بالإقليم الموروث الذي أضحى ضمن سيادة الدولة الوارثة أي الدولة الخلف بسبب واقعة التوارث الدولي، ويَعني المبدأ بعبارة أخرى، أن الدول المستقلة حديثا عن الدول الاستعمارية تبدأ علاقاتها التعاهدية وصحيفتها بيضاء غير مُحمّلة بأعباء أو التزامات دولية التزمت بها الدول الاستعمارية، و لم يكن للدول المستعمرة يد فيها، فعندما تستقل الدول لا يرتبط الإقليم المستقل بالمعاهدات التي تكون قد دخلت فيها دولة الأصل لأن المعاهدة عقد لا يُلزِم إلا الدول الموقعة عليها، فتعبير "مبدأ الصحيفة البيضاء" هو الطريقة المناسبة للتعبير عن المفهوم الأساسي القائل بأن الدولة المستقلة حديثا تبدأ حياتها طليقة من أي التزام.
أجمعت أحكام القضاء والتحكيم الدولي فضلا عن كتابات فقهاء القانون الدولي وممارسات الدول على استثناء الالتزامات العينية أو المحلية من مبدأ الصحيفة البيضاء، فإذا كانت الدول الخَلف لا تخلِف معاهدات الدول السَلف، أي لا تتحملها وتلتزم بها، لكن التزامات الدولة الخلف المرتبطة بأمور الملاحة واستعمال الأنهار الدولية والمواصلات هي ذات طابع ارتفاقي، فضلا عن معاهدات الحدود، تنتقل عادة إلى الدولة الجديدة، فالمعاهدات الدولية التي أبرمتها الدولة السلف التي تنصب على الإقليم مباشرة، تلتزم بها الدول المستقلة حديثا، وقد أكدت محكمة العدل الدولية الدائمة لعصبة الأمم في الحكم الذي أصدرته بخصوص المناطق الحرة عام 1932، مبدأ التزام الدولة الخلف بالمعاهدات الأصلية لا نها تنصب مباشرة على الإقليم الذي أصبح خاضعا لها.
تندرج معاهدات الحدود الدولية ضمن طائفة المعاهدات الدولية القابلة للانتقال، شأنها في ذلك شأن المعاهدات الشارعة أي المعاهدات التي تبرمها عدد كثير من الدول فيما بينها أو ضمن إطار منظمة دولية مثل منظمة الأمم المتحدة تدليلاً، بغرض تحقيق مصلحة دولية عامة مثل ميثاق منظمة الأمم المتحدة ذاته، والقول بغير ذلك سيؤدي إلى توقف تحقيق الهدف الذي أبرمت هذه المعاهدات من أجله، وفي ذات السياق تنتقل أيضا المعاهدات الدولية المتعلقة بتعيين الحدود الدولية، حيث أن هذه المعاهدات أبرمت لتحقيق مصالح الإقليم بالذات، حيث تتعلق به سواء انتقل هذا الإقليم إلى دولة أخرى أو استقل بحد ذاته مكونا دولة مستقلة، وهنا تنتقل المعاهدات الموروثة المرتبطة بالإقليم دون الحاجة إلى موافقة الدولة الخَلف أو موافقة أي أطراف معنية.
يرتبط مبدأ الصحيفة البيضاء السالف الإشارة إليه بمبدأ قانوني أخر لا يقل أهمية عنه وهو مبدأ "لكل ما في حوزته"، ويتلخص المبدأ في أن الدول المتجاورة والتي حصلت على الاستقلال حديثا توافق على أن تكون الحدود التي تفصل بين أقاليمها هي ذات الحدود التي تفصل بين هذه الأقاليم إبان فتره السيطرة الاستعمارية، والمصدر التاريخي لهذا المبدأ مُشتق من المصطلح اللاتيني لكل ما في حوزته Uti possidetis، وهو المصطلح الذي بادرت باستخدامه دول أمريكا الجنوبية المستقلة لتحديد حدودها المشتركة، وُيقصد بها الفواصل الإدارية التي كانت موجوده عام 1810 بين المستعمرات الإسبانية، وهنا فبتبني دول أميركا الجنوبية لذلك المبدأ تكون هذه الدول قد أعلنت تعهدها باحترام الحدود أو الفواصل الإدارية التي كانت تفصل بينها في عام 1810 أثناء خضوعها الاستعمار الإسباني واعتبارها حدود دولية تفصل بين سيادتها الإقليمية بعد حصولها على الاستقلال.
امتد ذات المبدأ إلى إفريقيا وآسيا بسبب موجه التحرر التي اجتاحت هاتين القارتين في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث أجمع الزعماء المؤسسون لمنظمة الوحدة الإفريقية في اجتماع القمة الإفريقية في مايو عام 1963 على تأييدهم الجماعي لمبدأ وضع اليد الفعلي والحدود الموروثة عن الاستعمار، كما شَكل المبدأ الجزء الأهم من قرار قمه منظمة الوحدة الإفريقية في المؤتمر المنعقد بالقاهرة في الفترة من 17 إلى 20 يونيو 1964، حيث أعلن المؤتمر وبناء على اقتراح من الرئيس التنزاني "جوليوس نيريري" أن مشاكل الحدود عامل خطير ومستمر وسبب رئيسي للنزاعات بين الدول الإفريقية، وأن رؤساء الدول الإفريقية يعلنون بأن الحدود القائمة الآن الموروثة عن الاستعمار هي حقوق ثابته، ويعلنون رسميا بأن جميع الدول الأعضاء تلتزم باحترام الحدود التي كانت قائمة لحظة حصولها على الاستقلال، وهكذا تطور هذا المبدأ تدريجيا وأصبح الآن المعبر عن "مبدأ قدسيه الحدود".
نصح الرؤساء الأفارقة في كافة اجتماعات القمم الإفريقية عند نظر نزاعات الحدود بين الدول الإفريقية، الدول المتنازعة بأن تتفاهم سلميا لتسوية هذه النزاعات، وأن تصل لاتفاقات فيما بينها توضع في صيغة معاهدات دولية بشأن هذه الحدود، كما أشار الرؤساء إلى أن تأسيس اتحادات كبرى تضم دولا في غرب، وشرق، ووسط، وشمال القارة، لا يجب أن يمحي الشخصية القانونية الدولية لكل دولة داخل هذه الاتحادات، كما شّددوا على رفض اللجوء للقوة المسلحة لتسوية هذه النزاعات الحدودية، وبالرغم من محاولات الدول الإفريقية حل مشكلاتها الحدودية سلميا، إلا أن الحلول العسكرية بقيت المهيمنة على الساحة الإفريقية لتسوية معظم هذه النزاعات.