من أهم النتائج الجانبية لخروج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من البيت الأبيض خفوت موجة التهويل من أهمية أسواق الأسهم كمؤشر على أداء الاقتصاد.

ولم يكن ذلك قاصرا على الولايات المتحدة، بل كان صداه يتردد في أنحاء العالم، حتى كادت الحكمة التقليدية الاقتصادية بشأن الوضع الاقتصادي لأي بلد تتلاشى.

لطالما دأب ترامب على التغريد والتصريح حول السوق بشكل شبه يومي، معتبرا ارتفاع مؤشرات الأسهم دليلا على نجاحه في تحسين أحوال الاقتصاد.

وكاد يفقد الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي استقلاليته التقليدية بمهاجمته كي يخفض أسعار الفائدة لتنتعش أسواق الأسهم. ولم يكن ترامب في هذا التوجه يشبه سوى أردوغان في تركيا.

وكان عام الوباء حاسما في الفصل ما بين السوق والاقتصاد الحقيقي، ففي الوقت الذي شهدت فيه اقتصادات العالم نموا سالبا (انكماشا) ظلت مؤشرات الأسواق ترتفع بمعدلات عالية. وهكذا، عاد العالم للأصول وإدراك مدى صحة الاقتصاد من سقمه عبر مؤشراته الحقيقية وليس من متابعة مؤشرات الأسواق.

ورغم فورة الإقبال على الأسواق والاستثمار في الأسهم والمشتقات الأخرى، إلا أن ذلك لن يعني شيئا حين تنفجر فقاعة غليان قيمة الأصول بدون سند اقتصادي حقيقي.

مع ذلك، فإن أهمية الأسواق تتجاوز كونها وسيلة توفير التمويل وزيادة رأسمال الشركات التي تعمل في الاقتصاد الحقيقي وتسهم في نمو الناتج المحلي الإجمالي.

فالأسواق في النهاية وسيلة لمحو "غثاء السيل" المالي من النظام العالمي.

فهناك مئات التريليونات من الثروات الورقية التي تسبب ضغوطا هائلة في الاقتصاد الحقيقي (ليست ضغوطا تضخمية فقط) ويحتاج النظام للتخلص من قدر كبير منها كل فترة. ولو افترضنا فقط أنها ضغوط تضخمية فقط، فإن السياسة النقدية للدول ستأخذ في التشدد مع زيادة معدلات التضخم، أي ترتفع أسعار الفائدة ويقل ضخ البنوك المركزية للنقد في السوق عبر برامج شراء السندات وغيرها.

في تلك الحالة تزيد كلفة الاقتراض ولا تتوفر السيولة السهلة فتهدأ فورة الاقبال على الأسهم والسندات وغيرها من المشتقات الاستثمارية. ليس بالضرورة أن تنفجر الفقاعة ويدخل العالم في أزمة، بل يكفي عمليات تصحيح كبيرة لتتبخر المليارات، بل والترليوينات من الثروات الورقية تلك.

لعل الأصول الرقمية مثال جيد على ذلك. خذ مثلا عملة بيتكوين المشفرة التي يرتفع سعرها بشكل جنوني رغم أنها ليست عملة وغير مضمونة من أي حكومة ولا يصدرها أي بنك مركزي وهي عبارة عن شفرة كمبيوترية مسجلة على شبكة برمجية مؤمنة (بلوكتشين) ليست مخزنة على خوادم محددة وإنما موزعة على ملايين الكمبيوترات حول العالم.

تشير التوقعات إلى أن سعر بيتكوين قد يصل إلى ثلاثمئة أو أربعمئة ألف دولار في غضون فترة قصيرة. وسيعني ذلك تضاعف قيمة سوقها بعدة تريليونات من الدولارات. وفجأة سيهوي سعرها – حتى إلى معدلاته الحالية – بما يعني ضياع هذه التريليونات. وضياعها هنا بمعنى "تبخرها" تماما، فهي لا تضيع من مستثمري بيتكوين لصالح غيرهم بل هي تمحى تماما. وهذا ما يحدث مع الأصول الاستثمارية الورقية الأخرى منأسهم وسندات ومشتقات مختلفة.

هل تذكرون ما حدث قبل أكثر من عقد من الزمن وأدى إلى الأزمة المالية العالمية في 2008؟ توسع الاستثمار في سندات توريق الديون العقارية المختلفة وهوى سوق العقار فتبخرت مئات المليارات من النظام. هذا رغم أن تلك المشتقات، مهما كانت افتراضية، استندت إلى أصول حقيقية في الاقتصاد الفعلي – العقارات – لكن الغليان والفقاعة ثم الانفجار أدى إلى تبخر الثروات أيضا. فما بالك بأصول استثمارية لا وجود مادي لأي سند لها!!

ربما لا يعني ذلك أن فورة الأسواق ستنتهي بسرعة، والأغلب أنها ستستمر لفترة. لكن العودة للأصول وتحول الاهتمام نحو الاقتصاد الحقيقي بقطاعاته المختلفة كفيل بسحب بعض الوقود الذي تغلي عليه الأسواق.

وستبدأالحرارة في البرود مع أو خطوة على طريق ضبط الماليات العامة للحكومات وتحول واضعي السياسات النقدية لاتخاذ اجراءات تضمن استقرار أسعار الأصول. ووقتها اما تنفجر الفقاعة بأزمة أو تشهد الأسواق تصحيحا حادا أو تتجمد على علتها حتى اشعار آخر.

الخلاصة، أنه جاء الوقت لتجاهل حركة السوق كمؤشر على أداء الاقتصاد ولينتبه الناس للبيانات والأرقام التي تعكس نشاط الاقتصاد الحقيقي. ولنسأل انفسنا بأمانة، إذا كانت مؤشرات الأسواق ارتفعت بشدة في عام الوباء (مؤشرات وول ستريت ارتفعت بنحو 15 في المئة العام الماضي) فلماذا نفقد وظائفنا أو لا نستطيع الحصول على فرصة عمل وتقل قدرتنا على تلبية احتياجاتنا من سلع وخدمات؟ الإجابة أن الاقتصاد متضرر وفي ركود أو انكماش او على الاقل تباطؤ نمو.

 ومع خروج العالم قريبا من أزمة وباء كورونا نتسجة التوسع في التطعيم باللقاحات، سيعاود الاقتصاد النمو ومؤشرات الأسهم في التباطؤ حتى "نرجع لله، والعيشة بتقواه" كما يقول المثل.