من بين الصواريخ الثمانية التي أطلقت على مدينة أربيل قبل أيام قليلة، فإن الوحيد الذي وقع داحل المدينة، سقط على منطقة حيوية تسمى "ناز ناز"، حيث معناها باللغة الكردية الدارجة يعني "الرقيقة". وهي تسمية أطلقها سكان أربيل على ذلك الحيّ الحديث من المدينة لمستوى الرفاه والجمال الذي تمتاز به.

من بُقعة سقوط الصاروخ بالضبط، يُمكن لأي مراقب خارجي أن يُعاين مشهداً لمدينة مغايرة للمشهد العام لأغلب مُدن منطقتنا.

فإلى الجانب الشرق منها يقع "دريم سيتي"، حيث تجمع المؤسسات البحثية والمعرفية والإعلامية الأكثر احترافية في العراق، إلى جانب بعض البعثات الدبلوماسية والشركات العالمية، الحيّ الهادئ الذي بناه رجل أعمال عراقي آشوري من بغداد، وسكانه خليط ملون من نُخب عالم الأعمال والثقافة والمعرفة والإعلام من كل خليط المنطقة. وشمال بُقعة السقوط يقع حيّ "عين كاوا"، المسيحي بكتلته السكانية الأكبر، والذي تضخم خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، بعدما أنضم إليه أكثر من مائتي ألف مسيحي عراقي من خارج إقليم كردستان.

جنوب المكان تماماً، ثمة الأبراج العالية المعروفة في مدينة أربيل، حيث "تجمع أمباير" الشهير، الذي يُخطط له أن يكون واحداً من أسواق المال والأعمال المستقبلية، وبالقرب منه تقعد حديقة "سامي عبد الرحمن"، التي تُعتبر من أهم ملامح المدينة الحديثة، والتي سُميت على اسم المناضل اليساري الكردي الشهير "سامي عبد الرحمن"، الذي كان بدوره ضحية تفجير إرهابي قبل سبعة عشر عاماً بالضبط، في مكان كان أيضاً بالقُرب من سقوط الصاروخ نفسه.

وشرق المدينة يقع برلمان إقليم كردستان، البناء الذي شُيد على شكل قلعة مهيبة لجهاز مخابرات النظام العراقي الأسبق، ما لبثت الحركة القومية الكردية حين انتصرت في انتفاضة عام 1991، حتى حولته إلى برلمان إقليمي.  

من تلك البقعة من المدينة، وفي كل بقعة منها، يُمكن معاينة ورؤية ما هو "بيروتي"، أي مدينة مفتوحة العوالم، يُمكن للمُختلفين سياسياً وقومياً وإيديولوجياً ودينياً أن يتلاقوا في أمكان متجاورة، أن يشتركوا في مشاريع وطروحات ما، وأن يختلفوا في أخرى كثيرة.

فالمدينة مثل قليلات أخرى في منطقتنا، وعلى رأسها بيروت، ذات خيار يفضل أن تكون مدينة مفتوحة، دون أية هوية أو خيار مغلق وجاف.

إلى جانب تلك السمة الثقافية والسياسية والاقتصادية الجوهرية للمدينة، ومثل بيروت تماماً، يمكن تسجيل عدد لا نهائي من الملاحظات النقدية على المدينة، مثل شكل العدالة الاقتصادية والاجتماعية ونوعية اللعبة السياسية. لكن تلك الملاحظات وأشكال النقد لم تحل قط دون السمة الجوهرية للمدينة، كفضاء مُشكل ومفتوح ورحب.

أغلب الظن، ولأجل ذلك التطابق الروحي والسياسي والنوعي مع مدينة مثل بيروت، فأنهما مدينتان مُستهدفتان.

إذ بوضوح تام، ثمة قوى إقليمية شديدة الجبروت، ترى في ذلك النوع من المُدن تهديداً بنيوياً لسطلتها وسطوتها على القرار الاستراتيجي والهيمنة النفسية والسياسية على مجتمعات المنطقة.

فالمدينتان، إلى جانب أخريات قليلات، توفر مزيج ساحراً من الاقتصاد المتنوع إلى جانب الحريات الاجتماعية والسياسية، وشيئاً غير قليل من الإعلام الحقيقي والمبادرات الثقافية، تشكل مجتمعة فضاء يُفرز منتجات الحداثة الإنسانية، المتواصلة مع الكُل العالمي.

ذلك المزيج المُضاد والمناهض لما تحاول هذه الأنظمة والقوى الإقليمية فرضها على الفضاء السياسي الإقليمي، من حروب ومواجهات وأشكال للثأر والدم والجيوش والعصابات والتطرف والقوى الراديكالية والقطيعة الثقافية.

منذ خمسين عاماً على الأقل، تعرضت مدينة بيروت إلى أعداد لا تُحصى من محاولات الضم والقضم والمحق السياسي، كانت قوى الجبروت السياسي تحاول أن تعزل هذه المدينة عن خصائصها وروحها وخيارها، لتكون السيطرة عليها أكثر يُسراً وأقل تكلفة، مثلما كانت باقي مُدن وقصبات المنطقة. يبدو أن أربيل ستواجه مصيراً مشابهاً، فنموذجها كما بيروت تماماً، يعاند ضعف خيال المتسلطين.