منذ عدة أيام ووسائل الإعلام العراقية تنشغل بتغطية خبر القبض على ثلاثة أشخاص قيل إنهم يمارسون الاغتيالات منذ 15 عاما في محافظة البصرة، وكانوا قد اغتالوا العديد من الشخصيات السياسية والاقتصادية والإعلامية المهمة،

منها محافظ البصرة الأسبق، وإمام مسجد البصرة الكبير، وعدد من الناشطين المدنيين والصحفيين ورجال الأعمال والمواطنين العاديين. ولأهمية هذا الخبر، فقد أعلنه رئيس الوزراء في تغريدة على تويتر، وليست الجهة الأمنية المعنية!

وحتى الآن لا نعرف ما هي دوافع هؤلاء الذين أطلق عليهم وصف (فرقة الموت)، ولماذا تتنوع أهدافهم بشكل صارخ، فيغتالون السياسيين ورجال الأعمال والناشطين المدنيين والصحفيين والناس العاديين على حد سواء؟ وكيف تمكنوا من ارتكاب كل هذه الجرائم وغيرها دون أن ينتبه لوجودهم أي مسؤول في الدولة؟ إن كانوا قتلة مأجورين، فيجب أن يعرف الرأي العام من يقف وراءهم، ومن الذي استأجرهم، ولماذا بقوا 15 عاما يمارسون القتل دون أن (تكتشف) السلطات الأمنية نشاطاتهم الإجرامية هذه، التي طالت أكبر سلطة في المحافظة، ألا وهي المحافظ نفسه؟

كان محافظ البصرة الأسبق، محمد مصبح الوائلي، قد أعلن قبل اغتياله بفترة وجيزة، أن معلومات وصلته بأن الملحقية الإيرانية في البصرة تسعى لاغتياله، هو وشقيقه، وأنه أبلغ الحكومة العراقية في بغداد، برئاسة نوري المالكي حينها، بنشاطات الملحقية الإيرانية، التي وصفها بأنها "بعيدة عن السلوك الدبلوماسي"، لكن الحكومة لم تتخذ أي إجراء بحقها. وقد حمّل الوائلي في إعلانه المصور، والمتوفر في يوتيوب، القنصلية الإيرانية مسؤولية سلامته وسلامة شقيقه. لكنه اغتيل بعد إعلانه ذاك، ولم يُحاسَب أحد حتى الآن.

ويتهم شقيق محافظ البصرة المغدور، إسماعيل مصبح الوائلي، قتلة شقيقه بالانتماء إلى "مليشيا كتائب حزب الله" المرتبطة بإيران، وقد صرح لوسائل الإعلام أن باقي أفراد العصابة هربوا بمساعدة المليشيا المذكورة المنضوية تحت لواء (الحشد الشعبي)! ولا يجهل أحد الوجهة التي هرب إليها هؤلاء، إن كانوا فعلا قد هربوا، فإن كانوا منتمين إلى مليشيا "كتاب حزب الله"، كما يقول الوائلي، فلن يضطروا إلى الهرب، لأن هذه المليشيا قادرة على حمايتهم وإطلاق سراحهم كما فعلت في بداية عهد الحكومة الحالية، عندما تمكنت من الإفراج عن 14 فردا من أعضائها بعد 3 أيام من اعتقالهم، وقد احتفلوا بحرق صور رئيس الوزراء ومعها الأعلام الأمريكية والإسرائيلية! بل إن الحكومة تراجعت عن محاسبة جماعة أقل شأنا من "كتائب حزب الله"، ألا وهي جماعة "ثأر الله"، بعد أن اعتقلت بعض أفرادها وصادرت مقرها، لكنها سرعان ما تراجعت وأعادت المبنى وأطلقت سراح المعتقلين دون توضيح الأسباب.

منذ عام 2003 والمليشيات المرتبطة بإيران تقتل العراقيين، من ناشطين وضباط وخبراء وأكاديميين وصحفيين وسياسيين، نساءً ورجالا، ولم تعلن الأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية، التي تجاوز عدد المنتمين إليها المليون منتسب حتى الآن، عن القبض على أي من القتلة أو الخاطفين، الذين كانوا يتنقلون بسهولة بالغة بهويات رسمية وسيارات حكومية، أو على دراجات نارية دون أن توقفهم دوريات التفتيش المنتشرة في المدن. لكننا نسمع أحيانا أن فلانا، الذي قتل عشرات الأبرياء هنا، أو سرق المال العام هناك، قد هرب إلى إيران، وأنه عاد إلى العراق بعد فترة من الاختباء في الجمهورية الإسلامية المباركة، وأن (القضاء) قد برأه من التهم (الكيدية) الموجهة إليه.

تحاول الحكومة أن تدعي البطولة في أنها قد تمكنت من القبض على عصابة زعزعت استقرار الدولة، بعد 15 عاما من القتل والترويع والسرقة والابتزاز، والحقيقة أن أجهزة أمن البصرة اعتقلت ثلاثة أشخاص أو أربعة، بينما هرب آخرون إلى "جهة مجهولة"، واحتمى آخرون بجهة "رسمية" مسلحة! لن يصدق كثيرون هذا الادعاء، الذي يبدو محاولة لتضخيم نجاح أمني محدود، وهو من ناحية أخرى إخفاق مريع، فكيف تستمر عصابة محترفة بممارسة القتل لخمسة عشر عاما دون أن يكتشفها أحد؟ أين كانت "عين العدالة التي لا تنام"؟

خلال عام من الاحتجاجات، 2019-2020، قتل ملثمون "مجهولون"، سمّتهم الحكومة السابقة (الطرف الثالث)، ما لا يقل عن 800 شاب وشابة في عمر الزهور، من المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوق مشروعة، بينما جرح ما لا يقل عن 25 ألفا آخرين، على أيدي أولئك الملثمين "المجهولين" الذين لا يخشون قوى الأمن والجيش والشرطة المنتشرة في كل مكان، ولا تكتشفهم حتى الكاميرات الأمنية، التي عادة ما تكون عاطلة أثناء ارتكاب الجريمة!

 كما خُطِف واُغتيل المئات في طول العراق وعرضه، بعضهم أُطلِق سراحُهم، ولم تُكشَف ظروف اختطافهم للرأي العام حتى الآن، بل إن أحد قادة المليشيات المرتبطة بإيران، ادعى علنا وأمام وسائل الإعلام، بأن مجموعته اختطفت (إعلامية) معروفة (وحققت معها ثم أعادتها إلى بيتها سالمة)! وكأنه يفتخر بصنيع غامر أسبغه على الشعب العراقي بأنه لم يقتلها! لم يسائله أحد من الأجهزة الأمنية أو القضائية عن اعترافه هذا، ولم يتحدث به حتى السياسيون!

من أولى المهام التي كان العراقيون يأملون أن تقوم بها الحكومة الجديدة، هي الكشف عن القتلة، قتلة المتظاهرين والناشطين، الذين لم تجف دماؤهم بعد، لكنها فشلت، بل ربما تستَّرت، على القتلة الحقيقيين. لم يُحاسَب أو يُساءل رئيس الوزراء السابق على الجرائم التي ارتكبت في عهده وعن دوره فيها، بل ظهر علينا يقول إنه عندما قتلت القوات الأمريكية الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد، اتصل سيادته بالسفارة الإيرانية في بغداد مستفسرا عن الحادث! رئيس وزراء يتصل بسفارة أجنبية كي يعرف ما جرى في مطار عاصمته!

ولم يُحاسَب أيٌ من وزرائه، بالأخص وزير الداخلية، الذي يحمل الدكتوراه في القانون، وجيء به إلى المنصب باعتباره خبيرا أمنيا، لأنه عمل في وزارة الداخلية طيلة حياته! وكل الذي سمعناه منه في مقابلة تلفزيونية بعد مغادرته المنصب، أنه زار ساحة التحرير أثناء الاحتجاجات (والتقط صورا مع المتظاهرين)! أما مسؤول أمني آخر، فقد أعلن في بدء الاحتجاجات (أن الحكومة لن تسكت بعد أن وقعت الجناية)! وهو يقصد بـ(الجناية) الاحتجاجات السلمية التي فضحت فساد الحكومات المتعاقبة التي شارك فيها سيادته، وكشفت فشلها في أداء أبسط واجباتها، ألا وهو حماية المواطنين من القتل والخطف والابتزاز والإهانة. هذا المسؤول الأمني، الذي احتفظ بمنصبه، ولا نعرف كيف أصبح مسؤولا أمنيا، وقد كان سابقا يقول إنه مهندس ورجل أعمال، وينتمي إلى عائلة كانت مقربة من النظام السابق، يجب أن يُحاسب، في مساءلة أو محاكمة علنية وليس في الغرف المظلمة.

المسؤول الوحيد في الحكومة السابقة الذي قُدمت ضده دعاوى قضائية عديدة بتهم فساد هو وزير الكهرباء، والسبب لأنه ليس هناك قوة مسلحة تحميه باعتباره مستقلا! لست هنا في معرض تبرئته من الفساد، فهذا شأن القضاء، ولكن أحسب أن هذه الدعاوى المقدمة ضده، كسابقاتها، لن تصل إلى نتيجة، ولن تؤدي إلى كشف الفساد واستعادة الأموال، خصوصا وأن الوزير المعني ربما غادر العراق.

من الواضح أن الهدف من الحملة الإعلامية لإبراز إلقاء القبض على ثلاثة أو أربعة متهمين بالقتل، كانت الأجهزة الأمنية قد تأخرت 15 عاما عن كشفهم، هو الادعاء بأن الحكومة حققت إنجازا عظيما في مجال الأمن، فهناك مساعٍ حثيثة على ما يبدو من رئيس الحكومة للترويج لنفسه في الانتخابات المقبلة. ولكن، لن يقتنع العراقيون بأن هناك إنجازا أمنيا حقيقيا، حتى تكشف الحكومة عن المسؤولين عن قتلة شباب انتفاضة تشرين، وباقي المغدورين، والجهات السياسية التي قررت تصفية الاحتجاجات عبر القنص والخطف والتعذيب والتسقيط من خلال إطلاق الأكاذيب والافتراءات بأن سفارات أجنبية تقف وراء المنتفضين!

ليس هناك شك عند العراقيين حول الدوافع السياسية للقتلة، ومن الذي أمر بقتل الناشطين، ومن هي الدولة التي تساند التصفيات الجسدية وسرقة المال العام وأعمال الخطف والابتزاز والإرهاب، وتأوي الهاربين من العدالة، وتسعى لتدمير الاقتصاد العراقي خدمة لاقتصادها، أما الذين نفذوا الجرائم، فهم قتلة محترفون مأجورون، والدليل أن أهدافهم مختلفة في كل جريمة، فمرة يغتالون محافظ البصرة، وأخرى يقتلون زوجين آمنين في منزلهما، كعادل وسارة، وثالثة يقتلون إمام جامع في صلاة الجمعة، كالشيخ يوسف الحسان، ورابعة يقتلون صحفيا بارزا شجاعا، كأحمد عبد الصمد، وخامسة مصورا مهنيا بريئا كصفاء غالي، وسادسة رجل أعمال، وعاشرة يغتالون ناشطة مدنية معروفة كالدكتورة رِهام يعقوب. وهذه الجرائم ليست ذات نسق واحد كي يمكن تصنيفها تصنيفا محددا، ما يدل على أن هؤلاء محترفو قتل، والمطلوب البحث عن الذين دفعوهم إلى ارتكاب هذه الجرائم ودفعوا لهم أجورهم ومنحوهم القوة والحصانة التي مكنتهم من تنفيذ أهدافهم! هؤلاء هم العقبة الأساسية في استقرار الدولة، ومازالوا أقويا وطلقاء، فإنهم سيجدون منفذين آخرين.

العراق يمر في أزمة مالية وصحية وأمنية حادة، بل وأزمة تتعلق بوجوده كدولة، لأن سيادته منتهكة ووحدة أراضيه مهددة، وهناك مليشيات منظمة (وليست منفلتة كما يردد البعض) تهاجم السفارات والمعسكرات والمطارات والمؤسسات، وتقتل وتخطف وتسرق دون أن تُلاحَق أو تُكشَف للرأي العام. ليس صحيحا أن تنشغل حكومة مؤقتة، جيء بها على عجل لتدير مرحلة انتقالية، في الترويج لنفسها كي تبقى في السلطة. هذه ليست مهمتها، والمطلوب منها أن تتخذ قرارت جريئة، تتعلق بالأمن الغائب والفساد السائد، وتتعاون مع المجتمع الدولي للدفاع عن سيادة العراق، ودرء المخاطر التي تتهدد كيانه، وتشوه نظامه السياسي، الذي يفترض بأنه ديمقراطي. فلتترفَّع هذه الحكومة عن المزايدات السياسية ومحاولة البقاء في السلطة عبر تضخيم الإجراءات العادية، وعليها أن تمارس دورها في ملاحقة المجرمين الكبار وتفعيل القوانين وتصحيح الأوضاع الشاذة. لا يمكن أن تُلام هذه الحكومة على إخفاقات الحكومات السابقة، لكنها تتصرف وكأنها طرف ضعيف بين مراكز القوى المتعددة، بينما هي الحكومة التي تدير المؤسسات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والمالية، وعليها أن تقود من الأمام وبقوة كي تحدث التغيير المنشود وترسِّخ استقرار الدولة.