اعتبر حزب الله أنه حدث استغلال سياسي وإعلامي لجريمة اغتيال لقمان سليم. واحتشد جيش الحزب الإلكتروني يتهم إسرائيل والصهيونية والأميركيين. بأنهم وراء الجريمة بهدف إثارة الفتنة. وفي الحالين لم يدن الحزب الجريمة ولم يستنكرها ولم يكلف نفسه عناء التبرؤ من دم القتيل.

لا يريد الحزب رد التهمة عنه. نجل أمينه العام كان الأصدق في التغريد "لا أسف"، قبل أن تُسحب التغريدة ويعتبرها جمهور الحزب توقيعا علنيا من أعلى المستويات وأمر عمليات. لم يكن قتل لقمان الأعزل من أي سلاح يحتاج إلى "عملية معقدة" (وفق روايات أمنية) وإلى إخراج هوليودي يترك في ساحة الجريمة رسائل المجرم. لكن القاتل أراد للعامة أن تعرف أنه القاتل.

وقائع القتل السياسي الحديثة (حتى لا نتحدث عما قبلها) بدأت عام 2004. كلها ارتبطت بحزب الله وجُلها أُلصقت بـ "العدو الصهيوني الغادر". وحين قُتل رفيق الحريري في فبراير 2015 لم يأت على بال أحد أن يكون حزب الله مذنبا وتركز الاتهام على النظام السوري في دمشق. بيد أن الحزب عمل منذ اللحظة الأولى على تحضير جمهوره كما خصومه لما أفرجت عنه التحقيقات في الداخل والخارج عن تورطه المباشر في الجريمة.

ذهب سعد الحريري إلى الأمين العام للحزب يفاتحه في أمر ما توصلت له التحقيقات اللبنانية المعتمدة على داتا الاتصالات من أدلة على تورط أعضاء في الحزب بجريمة اغتيال والده. كان يقود هذه التحقيقات ضابط لبناني شاب هو النقيب وسام الحسن. وكان الحريري يأمل من خلال هذا الكشف إلى التوصل إلى تسوية تجرّم المنفذين وتبرئ الحزب فيتوقف الانهيار وتتبلسم الجراح ويعاد ترميم ما تصدع. بعدها قتل وسام الحسن (اكتوبر 2012).

في أحد أفلام المافيا يؤخذ الفتى بكاريزما الزعيم المافياوي فيسأله: هل تُفضل أن يحبك الناس أم أن يخافوا منك؟ يجيب ذلك الزعيم بثقة الحكماء: من يحبني يخونني ومن يخاف مني يخاف أن يخونني.

اغتيال لقمان سليم دليل آخر على أن الناس التي تعرف سطوة حزب الله وقدراته العالية على الفتك لم تخف ولم ترتعب، وأن الراحل تمسك بالعيش في قلب "الضاحية"، وداخل بيئة حزب الله وجمهوره ليس بعيدا عن قيادته ومقر زعيمه. كان مؤمنا بمجتمعه الصغير وبحق هذا المجتمع في الانتماء الكامل إلى مجتمع البلد الكبير. وإذا ما تقصّد حزب الله عدم إدانة القتل فذلك لحرصه على رعاية القاتل حتى لو كان "العدو الصهيوني الغاشم".

حوّل حزب الله لبنان إلى منبراً معاديا للعرب والخليج خدمة لأجندة الحاكم في طهران. ابتعد أصدقاء لبنان ومموليه عن البلد وتركوه حرداً. فيما العواصم الكبرى التي تتوالى في إدراج الحزب على لوائح الإرهاب تتخبط فيما بينها في سبل التعامل مع الحزب ومع بلد يحكمه هذا الحزب. غير أن أهل البلد ليس لهم إلا هذا البلد، ولا ترف لديهم للحرد منه والتبرؤ من ترابه. يملك محبو لبنان في الجوار القريب والبعيد أن يتركوه لمصيره، وكان لقمان سليم يملك أن يغادر حيَّه وبيروته ولبنانه، لكنه لم يفعل لأن فيه مصيره.

في بداية الحراك الشعبي في سوريا، وفي يوليو 2011 بالذات، توجه سفراء أميركا وبريطانيا وفرنسا للمشاركة في تظاهرة للناس في مدينة حماه. لوّح الأمر بموقف دولي داعم لثورة السوريين تعبر عنه عواصم كبرى. كانت تلك العلامة متعجلة أو زائفة، ذلك أن حسابات الكبار رسمت سيناريوهات شيطانية تتحمل مباشرة مسؤولية الكارثة الإنسانية في هذا البلد. في لبنان أيضا آمن تيار واسع من اللبنانيين بدعم المجتمع الدولي، وسواء في خروج الناس في "14 آذار" 2005 أو في ذلك في "17 تشرين" 2019 وما بينهما، فإنهم أظهروا، بمناطقهم وطوائفهم وتياراتهم، تمسكهم بالدفاع عن بلد حديث، حيث الاحتكام لقضاء وقوانين، وحيث السلاح شرعي في يد الدولة، وحيث الفساد جريمة وليس أسلوب عيش وحكم.

أتحفنا المجتمع الدولي بركاكة سياساته وجوف بياناته واهتزاز مقارباته. ألم تكتشف المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري أن الجريمة عمل فردي؟ ألم يراقب العالم القريب والبعيد سقوط مدينة بيروت في "7 أيار " الشهير (2008) دون أي رد فعل يذكر؟ ألم تبارك مبادرة فرنسا الأخيرة رجحان كفة حزب الله فيما حلفاؤها، بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، تعتبره إرهابيا؟ ثم أليس مشبوها أمر غياب تقارير دولية عن حقيقة انفجار مرفأ بيروت الذي كاد يسبب إبادة عاصمة متوسطية وهي جريمة لطالما سعى الحزب للتنصل منها؟

من قتل لقمان سليم كان يقرأ كل ذلك ويعرف أن جريمة جديدة لن تختلف عن سابقاتها وأن تغريدة "لا أسف" تحظى بصمت الكبار البليد. يبقى أن أهل البلد يقولون "يا وحدنا" إلى أن تبيح لعبة الأمم إنقاذ لبنان من مصيره القاتم. كان لقمان يقوِّل "صديقته الشريرة" لعلها ترد عنه شر القتلة المطلق، فلم تفعل.