مفارقة حقّاً أن تحتلّ الترجمات الإنجليزية، لأعمالٍ مكتوبة بالعربية، المرتبة الأولى في هوية الهواة، في وقتٍ لعب فيه الإنجليز دور السلطان، في العلاقة مع هذه اللغة، من خلال هيمنتهم على واقعنا كمستعمرٍ دام سلطانه، أكثر من كل الأمم الإستعمارية، في القرون الأخيرة، فكيف لا يدهشني أن أستثني ثلاثة مترجمين فقط، من أصل ثمانية، قاموا بمعالجة نقل أعمالي إلى لغة مهيمنة على الثقافة العالمية كالإنجليزية؟

أذكر أن العزيز كمال أبو ديب أول من حذّرني من فخاخ هؤلاء الهواة عندما استفهمتُ عن مقام ترجمانٍ هو بيتر كلارك، كان قد نقل "نذر البتول" إلى الإنجليزية، وقام بنشرها في إحدى الأنطولوجيات، ففاجأني بأن الرجل يجهل العربية تماماً. وهو التعبير نفسه الذي استخدمه نوتاهارا (العليم بالفرنسية)، في حقّ الترجمان المغربي الذي اعتمدته غاليمار في ترجمة "التّبر". ولكن المعالجة الصبيانيّة لترجمة النصّ لم تمنع عقلاً روائياً عالمياً في مقام خوان غويتيسولو من الإحتفاء بالرواية في صيغتها الفرنسية، بدراسة في الـ"نوفيل اوفزيرفاتور" حال صدورها، ليزكّيها إلى الإسبانية، متوّجةً بمقدمة، في وقتٍ حجب فيه الثقة لترجمة أعمال روائية رائدة لغارسيا ماركيز في غاليمار بصفته المستشار في شئون الأدب الإسباني.

 وعلّ الأسوأ من كل شيء أنّ الإساءة لا تقتصر على اللعنة التي ستلحق بالعمل لتحوّله بالتقادم ضحيّةً في هذه اللغة، ولكن الوصمة ستصاحب العمل آنئذٍ في رحلته عبر اللغات الأخرى، التي يروق الحواة أن ينقلوا إليها النصّ، لا من اللغة الأصليّة، كما يقضي قانون الترجمة، ولكن استنساخاً من الشبح القبيح، الذي آلت إليه في الترجمة الثانية من النصّ الأصلي. والواقع أن هذه اللعنة إستعارت في تجربتي بُعداً تاريخياً، فقد قامت إحدى المجلات السوفييتية الكبرى بنشر قصّة "جرعة من دم" في منتصف سبعينيات القرن السالف، لتنقلها عنها مجلّة أخرى في ترجمة إلى الإنجليزية، لتقوم مجلّة ثالثة معنيّة بآداب آسيا وإفريقيا، بنشرها باللغة العربية مترجمَةً من الإنجليزية، أي العودة بها إلى اللغة الأصليّة، بعد أن عبرت جحيم طائفة لغات، لتتحوّل نصّاً من تأبين محفل المترجمين؛ لأن اللعنة ستبقى من نصيب النصّ الشقيّ إلى الأبد، بدون وجود سبيلٍ لمرافعة تبرئتها من التهمة، في واقع ثقافي لم يكن معنيّاً يوماً بحقوق المؤلف المعنوية، أكثر من عدم عنايته بحقوقه المادية، ولذا فالمؤلف آخر من يملك حقّ تقييم تجربة تنويرية كالترجمة، لأنه محكومٌ بقدر الضحية، بسبب الموقف من غياب المسئولية الأخلاقية، الناجم أساساً عن غياب القصاص: غياب القصاص جزاء ممارسة عبثٍ لم يعد مجرد جُرم في حقّ نصٍّ، ولكنه أضحى خطيئةً، أضحى تجديفاً في حقّ حقيقة، تبنّاها النصّ بطبيعته كنصّ، والعقاب في شأنها ليس من صلاحيات القوانين الوضعية، ولكن من اختصاص سلطة منزّهة عن واقعنا الدنيوي: سلطة الضمير!

أهوَ انحدارٌ من منزلة الإنحطاط الأخلاقي، ونزولٌ إلى حضيض الإفلاس الروحيّ؟

ليس لنا أن نطعن في عقليةٍ تعامل النصّ الإبداعي كمشاع عامّ، ما أن ينزل ساحة الوجود، لأن الأدب ملكيّة إنسانية، منزّهة عن الدنس النفعي بالطبيعة، ولكن موضع الخلاف يسكن موقف الوسطاء من عملٍ هو في ناموسهم غنيمة في حرفه، ولا يهمّ إذا اغتربت فيه القيمة، بسبب استهتارهم بعنصر هو فيه رأسمال وهو الأصالة، استجابةً لحمّى التسويق. فلم يوجعني شخصياً أن تقوم دور نشر عبر العالم بإعادة إصدار أعمالي بدون موافقتي، أو يقوم ترجمانٌ هنا، أو آخر هناك، بنقل أعمالي بدون إذن، أو عقد، أو علمٍ، كما حدث مراراً، ولكن ما المؤلم هو الإساءة للعمل بسبب سوء الترجمة، ليقينٍ بأن عملاً كهذا هو بمثابة حُكم إعدامٍ في حقّ العمل، إحترفته دور نشرنا العربية حقبة طويلة في حقّ الأدب العالمي، عندما لم تخجل من إصدار عمل مرجعي في مقام "الحرب والسلم" في مائتي صفحة، لملحمة يتجاوز عدد صفحاتها الخمسة آلاف، فلا يرتقي الكِتاب حتى إلى مستوى التقرير المبدئي للإحاطة، الذي تعتمده دور النشر للإطلاع السطحي على الفحوى. أمّا شرع الحقوق فهو ما لم تعترف به دور نشرنا يوماً. ففي مطلع 1996 التقيت إسماعيل كاداريه في ندوة حول ثقافة حوض المتوسط، بدعوة من المركز الدولي لثقافات العالم، في برلين، حول مائدة مستديرة تولّى فيها معالجة ثقافة شمال المتوسط، لأتولّى بالمقابل شأن ثقافة جنوب المتوسّط. وأذكر كيف اجتمعنا على مائدة الإفطار في اليوم التالي لنتبادل سيرة الدراسة بمعهد غوركي للآداب، الذي سبقني إليه ببضعة أعوام، إلى أن انتهى بنا الأمر إلى حضوره في اللغة العربية. لقد فوجئتُ بجهله بوجود أعماله في العربية، بقدر ما تفاجأ هو بخبر حضوره في العربية، حضورٌ هو في منطق المؤلف دوماً بشارة، لأن الحضور في لغة أخرى هو ميلادٌ في صيغة أخرى. ولكن الرجل لم يصدّق أن يكون حضوره في عمل روائي مُحدّد، بل حضورٌ في الأعمال الكاملة (!) ليس هذا وحسب، ولكن بتراجم ليست من اللغة الأصلية، بل بوسيطٍ ثالث هو الفرنسيّة.

ولكن سعادته بهذه القفزة الخرافيّة هوّنت عليه صدمة السّطو. وكي يهنأ بميلاده المفاجيء، طمأنته بجودة الترجمة، رغم أنف مفارقة وساطة للغة ثالثة هي الفرنسية!

فالموقف من الوسطاء رهين مفهوم الوساطة.

فالوسيط، في التجربة الدنيوية اليومية، نموذجٌ يفتقد النزاهة، لذا فهو آثم. ولكنه، في حال التجربة الروحية، مبشّرٌ بحقيقة، لذا فهو رسول!

فأين موقع وسيط التجربة الإبداعية من هذين الضدّين؟

التجربة الإبداعية عملٌ من صنع الروح. وأن تكون صنيع روحٍ، فهذا يعني أنها طينة روح. وأن تكون طينةً مسكونة بطبيعة الروح، فهذا يعني أنها تنزيهٌ عن واقعٍ يعتنق دين باطل الأباطيل، ولا يعترف بغير الحقيقة ديناً. ولذا فالترجمان رسول همّه اعتناق البلاغ بهدف التبشير بفحوى البلاغ. وهذا الدور الرسالي هو البطولة التي تحوّله من مرتبة دنيوية كالوساطة، لتنزله منزلة قدسية كالرسول.

وهي منزلة عصيّة، لأنها محفوفة بخطرٍ يترصّدها، فلا شيء يضمن ألاّ يتحوّل فيها البطل ضحيّةً، كما يليق بكل مريد حقيقة قدره أن يرابط حيث ينتصب الصليب.

فماذا يعني أن ينتحل الوسطاء تجربة روحية كالإبداع، ثم يخونوا رسالة الرسول؟

ألا يحقّ لنا أن نستنزل في حقّهم حينها حكم رُسُل الزور، كموقف اعتمدته أدبيات عالمنا مترجماً في صفة "الخائن"، الملصقة بجناب الترجمان؟

وهي إدانة شنيعة في حقّ إنسانٍ شاء، بحسن النيّة، أن ينير السبيل لقيام علاقة بين قطبين وجوديين، حتّمتها مشيئة قيام ما نسمّيه مجتمعاً، كان له الفضل في تكوين نواة الحضارة. فهل تيسير استحضار الإنسان، ليكون شريكاً في حضرة أخيه الإنسان بمثابة عملٍ من قبيل التجديف في حقّ الحقيقة، بوصفه ضرباً من اقتراف خطيئة؟

إنه المفهوم البدْئي الذي نحتته سلالة أسطورية، لعبت دور الريادة في نحت الحرف الأول في أبجديّة الحضارة، كأهل سومر، من خلال مفردة كانت كلمة السرّ في قيام كيان القوم، كالحال مع "تامكرّا" الدالّة على حرفة التجارة، ليشتقّ منها الوسيط التجاري إسماً مشبوهاً في حقيقته هو "مكر"، حتى إذا اختصمنا إلى ساحة اللسان البدئي، لاستجلاء ذخيرة هاتين المنطوقتين، اكتشفنا أن "تامكارّا" تتكتّم على معنيين جليلين هما: "الصفقة التجارية" من جانب، و"المكيدة" من جانبٍ ثانٍ، فإذا احتكمنا إلى المنطق، وتساءلنا عن حقيقة الصفقة التجارية، بالنسبة لإنسانٍ حديث العهد في علاقته بالمفاهيم الوجودية المجرّدة، الحميمة الصلة بالتجربة الحسيّة، فلن يضيرنا أن نكتشف أن الصفقة التجارية في فحواها ما هي إلاّ احتيال، أو تآمر، مشفوع باعتراف مملوّ بكم الضرورة، فينال شرعيّة برغم الوعي بحرف الغشّ في المعادلة. أي أنها مبادلة مسكونة بروح ميفستوفليس بالضرورة. ولذا كانت في الناموس إثماً بطبيعتها المادية، لتنال الحرفة التجارية لعنتها في سليقتها كمبدأ مسكونٍ بدنس النفع، كما اعتنقته المعتقدات الزهدية تالياً. والدليل يتحفنا به إسم "مكر"، المشتق من هذه الصفقة الملتبسة، الذي يعني "اللصّ" في لغة بدئية كالليبية القديمة، كما هاجر بالدلالة ذاتها، ليستقر في لغة صنعت مجد حضارات الهند القديمة، كالسنسكريتية، واعتمدته العربية رديفاً لـ"الخبث"!

فالتاجر، بعقلية إنسان يحيا عهد سنّ المفاهيم المجرّدة من واقع التجربة الحسيّة، هو بهلوان محتال، يقوم بدور الوسيط في ربط صلة وجودية بين قطبين مغتربين عن واقع العلاقة الدنيوية، عندما يشتري سلعةً ما بأبخس الأثمان من هذا الطرف، ليسوّقها بأغلى الأثمان لدى جناب طرف آخر، مستغلّاً اغترابهما، الذي ينزّههما عن الحطّ من قدرهما، كطينة فطرية مسكونة بروح الألوهة، فلا يتردّد في أن يضحّي بحطام دنيا هو، في يقينه، دنس، إذا قورن بعفافٍ هو قدس أقداس.

هنا من حقّنا أن نتوقّف لنستنطق لا الموقف من الوساطة كمفهوم، ولكن لنستجوب طبيعة الوساطة:

فالوسيط في الصفقة التجارية يستعير هوية لا أخلاقية هي، في عرف العلاقات الإنسانية، تُدعى: السمسار!

أي الوسيط الذي يحترف مهنة لا تجد ضيراً من أن تسجد لوثنٍ هو: النفع.

على النقيض من هذا القطب تقف الملّة الأخرى التي اعتنقت دين العفاف، فوهبت نفسها وصيّة على الثروة المنزّلة بحرف الإلهام النبوي، ليستحق السادن المنتمي لحرَمها لقب: الرسول!  

في قلب هذا الخصام، بين هذين القطبين المتنازعين، يحتلّ الطرف الثالث مكانة وسطى بين الوسيطين، يمارس عملاً اصطلحنا على تسميته إبداعاً، ليروّج لبضاعة ذات ماهيّة منزّهة عن دنس النفع، ولكنها لم تتأهّل للحلول في معراج النبوّة إلاّ في المرتبة، حسب التصنيف الخلدوني للوحي. وهو ما يبيح لنا أن نستنزل في العمل الإبداعي صفة القيمة الروحية، استجابةً لنداء الطبيعة الدينية في أي عمل إبداعي.

والوسيط المخوّل بلعب دور في صفقة من هذا القبيل هو: الترجمان!

أي أنه المحظوظ الذي يتربّع على عرش الوسط، ليكون الأكثر جدارة بتولّي أمر الوساطة، التي لم تكن يوماً سوى جنس من شراكة، فلا يطمع في احتلال منزلة التنزيل، كما يتنزّه عن النزول إلى حضيض النفع، حيث يرابط الإثم، القادر على إبطال مفعول التميمة الروحية، التي لم توجد إلاّ لتمحو وصمة الخيانة، المتداولة كلعنة رديفة لعمل الترجمان.

يتحقق الخلاص عندما يغدو الترجمان شجاعاً بما يكفي كي يكفّ عن معاملة عمله كغنيمة، ليتبنّى فيه بُعْد القيمة، فيضحّي بالسعادة، مقابل دفع مكوس إسمها: أداء الواجب!

في هذا البرزخ يتطهّر هذا الفارس من دنس الواقع الحرفيّ، المبلبل بروح النفع، ليستعير طبيعة الوصيّة، المسكونة بنزيف المبدع، فيتماهى في النزيف، ليصير مبدعاً، جديراً بحمل وزر الصليب، فلا يعود مجرد وسيط، مجرد ترجمان، ولكنه يحتلّ مكانة المبشّر، المجبول بروح الرسول، والحُجّة، التي سيترنّم بها منذ الآن، نبوءةَ!

فالقيمة في مغامرة خطرة كالترجمة، تبقى رهينة اغتراب عن حجّتها، ما لم تهرع الروح الزهديّة، المسكونة بالرؤيا النبويّة، لنجدتها، فتلقّن درسها في حقّ الوديعة الوجودية، المغتربة عن طينتها اللغوية، لتستعيد فردوساً لا يعود يسكن البُعد الضائع، ولكنه يستعير هويّة الفردوس المستعاد. وهو ما لن يحدث بدون إتقان لغة أخرى، فوق اللغة الحرفيّة: إتقان اللغة التي تسكن كل اللغات، لأنها وحدها رأسمال اللغات، فلا نجد ما ننعتها به سوى: لغة الروح!

وكان بوسع تجربة الترجمة أن تلعب في واقعنا الثقافي دوراً تنويرياً أعظم، فيما لو لم تتحوّل هذه اللغة، في واقعنا الحداثي، عنقاء مُغرب.

 

هامش: لشهادة ميلاد في حقّ الجنين

الترجمة ليست معصومة من آفة الزمان، بل وآفة كل الأزمنة، وهي اعتناق دين الغنيمة في أي نشاطٍ إنساني، ليتحوّل أيّ عمل ضحيّةً، لأن قدر القيمة، في هذه المعادلة، اغترابٌ. فاللعنة التي لاحقت متون لغة عبقرية كالعربية ليست خطيئة طارئة، ناجمة عن استهتارٍ عابر، ولكنها رذيلة تسكن صميم الفلسفة، سواء أكان النقل من العربية، أو النقل إلى العربية، فلا نملك إلاّ أن نحسد روائياً عالمياً في مقام غابرييل ماركيز على محاباة الحظّ عندما يعترف كيف حظيت "مائة عام من العزلة" بمنزلة، في ترجمتها إلى الإنجليزية، أقوى حتى من صيغتها في الأصل الإسباني؛ وهي معجزة في واقعنا العربي لن نستطيع أن نتخيّلها إذا كنّا نتغنّى، على سبيل المثال، بتراجم سامي الدروبي لدوستويفسكي ونسوّقها كنموذج مازال إلى اليوم مضرب مثل في الإتقان، بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدورها، برغم اقتراف خطيئة في حقّ ناموس الترجمة الذي لا يعترف بتسويق المتن عبر وسيطٍ ثالث، كما فعل الدروبي الذي نقل أعمال هذا الحكيم لا من الروسية رأساً، ولكن عبر الفرنسية، ليرتكب، بهذا الإستخفاف، آثاماً لا تُغتفر في حقّ أعظم عرّاب لفنّ الرواية على الإطلاق، كأنْ نقرأ هذه الفقرة، المشوّهة بالحشو الطائش، الواردة في الترجمة لأعظم عمل في تاريخ الرواية وهو "الإخوة كارامازوف": "الجمال شيءٌ رهيب ومخيف! هو رهيب لأنه لا يُحدَّد.. ولا يمكن تحديده، لأن الله ملأ الأرض ألغازاً وأسراراً"، في حين قمتُ بترجمتها شخصيّاً، نقلاً عن الروسية رأساً، لتكون استشهاداً توّج رواية "ناقة الله" على النحو التالي: "الجمال مخيف، لأنه بلا تعريف، وهو بلا تعريف، لأن الله لا يطرح إلاّ الأحاجي". وبمقارنة عابرة بين الترجمتين يستطيع أيّ هاوٍ أن يدرك مدى قسوة الطعنة، التي سدّدها الترجمان لهذه الجملة الحاسمة، لتنزف ذخيرتها، المسكونة بالحكمة، المجبولة بالشعر، الغنية بذلك الجنس من الإيحاء، الذي كان دوماً شعرة شمشون في أدب دوستويفسكي؛ فلا نكتفي، في واقعنا الشقيّ، أن نبارك هذا العبث، ولكننا نتغنّى به في محافلنا الثقافية، ونتباهى به كنموذج في الكمال، طوال أكثر من نصف قرن.

فهل هو غيابٌ للموقف النقدي، أم استمراءٌ لواقع الإنحطاط الثقافي؟

الواقع أنه غيابٌ للرؤيا، وقبولٌ بانحطاطٍ أخلاقي، ناجم عن احترافٍ لاغترابٍ لا يكتفي بأن يترجم لنا البرهان على غياب الموقف النقدي، ولكنه يهبنا الدليل على اغترابنا عن واقع الوجود، ما دمنا قد آمنّا، مع من آمن منذ الأزل، بحقيقة اللغة كماهية وجود، ومَن لا يحسن اللغة، لا يحسن الوجود. وإتقان اللغات ليس مجرد امتلاء، ليس مجرد ثراء، ولكنه تنويعٌ وجداني لمعزوفة حضورٍ لا يتحقق خارج اللغات، وكلّما تعدّدت في ألسنتنا اللغات، تعدّدت في أفئدتنا الوجودات، فلا نكتفي بأن نحيا مرة، ولكننا نحيا مراراً، نحيا أعماراً!

فنحن لا نتعلّم اللغات، لنتراطن باللغات، ولكن لكي نستخدم وجوداً في اللغات، بهدف تحقيق الحضور في اللغات، لاستطلاع الجنين النفيس الذي يسكن نصّاً يختزن وجوداً، يختزن حقيقةً، الترجمان، في الصفقة، ليس مجرد وسيطٍ، ولكنه االعرّاب الشجاع، الذي يتحلّى بروح القابلة، المخوّلة بتسهيل ميلاد هذا الجنين. وكل استهتار بالترجمة هو استهتار بالوجود، استهتار بحقّ الجنين في الحضور قيد الوجود!