تحصُل المعرفةُ من طرقٍ ثلاث: التّجربة، العقل، الحَدْس.

لا تدخل المعرفةُ التي تقع بواسطة الحِسّ ضمن هذه، لأنّها "معرفة" غير يقينيّة ناهيك بأنّها طبيعيّة فطريّة، غير ناشئة من الاكتساب.

وقد يكون في المعرفة الحَدْسيّة شيء من الطبيعيّ والفطريّ (أي غير مكتسبَة)، لكنّها ليست متاحة لعموم النّاس مثل المعرفة الحسيّة. والقائلون بالحدس يزعُمون بأنّه مَلَكَةٌ مخصوصٌ بها قُلٌّ ممّن هم أهلٌ لها، وأنّها وهبٌ إلهيّ مقذوف في رُوع الخاصّة.

بل يذهب الصّوفيّةُ، مثلاً، إلى القول إنّ المعرفة التي تحصُل بالحدْس هي أرقى مراتب المعرفة وأيْقَنُها وأصدقُها جميعًا.

لكن، لمّا كانتِ المعرفةُ الحدْسيّة غيرَ قابلةٍ للبرهان عليها – مثل ما يُبَرْهَن على المعرفة التّجريبيّة والمعرفة العقليّة (على الرّغم من تسليم بعض علماء الرّياضيات بفكرة الحَدْس الرّياضيّ) – فإنّنا نأخذ بالمبدإ القائل إنّ المعرفة ضربان: معرفة بواسطة العقل، ومعرفة بواسطة التّجربة.

وسواء توسَّلتِ المعرفةُ التّجربةَ أوِ العقلَ في بناء نتائجها، فإنّ الجامعَ بين شكليْها هذين أنّها تحرص على الموضوعيّة وتتوخّاها، بحسبان الموضوعيّةِ وحدها تَخْلَع الصِّدْقيّةَ على تلك المعرفة وتؤمِّن لها يقينيّتَها؛ إذْ لا إمكانَ لمعرفةٍ إنْ شابَها شَوْبٌ من شكٍّ أو ظنٍّ أو هوًى.

ومعنى ذلك أنّ المعرفة تحتاج، لكي يستقيم لها معناها كمعرفة، إلى تحييد الذّات والرّغبة والهوى والمصالح أثناء عمليّة التفكير (أي أثناء عمليّة بناء المعرفة). إنّ هذه العوامل إنْ تدخّلت في المعرفة تتحوّل إلى ما أسماه غاستون باشلار بالعوائق الإيپيستيمولوجيّة؛ أعني التي تحُول دون إمكان المعرفة بما هي إدراكٌ مطابِق للظّواهر المدروسة. بعبارة أخرى، تتوقّف موضوعيّةُ أيّ معرفة على مَنْع إقحام الذّات ونوازعها فيها على النّحو الذي لا تُطابِقُ فيه المعرفةُ موضوعَها.

ومن المسلَّم به عند الباحثين في نظريّة المعرفة أنّ التّفاوُتَ كبيرٌ، على صعيد نشدان الموضوعيّة، بين المعرفة التي مبْناها على التجربة (=العلوم الطّبيعيّة) والمعرفة التي مبْناها على العقل (العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة: وعلم الرّياضيّات إلى حدٍّ مّا). وهو تفاوُتٌ لا يُرَدّ إلى كون التّجربة أدْعى إلى اليقين من العقل (إذِ العلمُ التّجريبيّ نفسُه لا يخلو من فاعليّة عقليّة؛ فالفرضيّةُ العلميّة التي تُختَبَر في المختبر ليست أكثر من بناءٍ عقليّ في أوّل أمرها)، بل لأنّ مساحة الموضوعيّة في العلم الطّبيعيّ أوسع من مساحتها في العلم الإنسانيّ والاجتماعيّ.

وبيان ذلك أنّ موضوع العلم الأوّل (=الطبيعة) مستقلّ وخارجيّ عن الذّات الدّارسة، وهامشُ تدخُّل هذه في موضوعها ضئيل جدًّا. أمّا في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة فموضوع الدّراسة (الإنسان) هو عينُه الذّات الدّارسة، ممّا يتعذّر معهُ تحقُّق الاستقلاليّة التي هي شرطٌ لازبٌ للموضوعيّة، أي لما يشكّل أساسًا مكينًا لكلّ يقينٍ علميّ.

العِلم الرّياضيّ كالعلم التّجريبيّ يقوم على استقلال الموضوع المدروس عن الذّات الدّارسة. ومَأْتى موضوعيّةِ نتائجه من هذا الاستقلال، ابتداءً، مع أنّه ليس من علوم التّجربة كعلوم الطّبيعة، بل هو في أدواته أقرب ما يكون إلى العلم النظريّ المجرّد (مثل المنطق). لا، بل إنّه العلم الذي بات في أساس علوم الطّبيعة على نحوٍ لم يعد لها من غَنَاءٍ عنه، وباتت لغتُه الريّاضيّة لغتَها.

وهذا دليلٌ إضافيّ على أنّ التّفاوت في درجات الدّقة العلميّة بين العلوم (التّجريبيّة والإنسانيّة والعقليّة) لا يعود إلى الفارق بين علومٍ مبْناها على التّجربة وأخرى على العقل؛ فها هو علمٌ عقليّ صرف مثل الرّياضيّات يتحوّل، في المعرفة المعاصرة، إلى العلم المرجعيّ الذي تتوسّل العلومُ كافّة أدواته، وتعبّر عن نتائجها به، وتحاكيه بما هو النموذج الأعلى لكلّ معرفةٍ يقينيّة.

ومع أنّ جاذبيّته أخّاذة، في ميدان المعرفة، فقد بات من اليقينيّات الإيپيستيمولوجية المعاصرة أنّه ليس من العِلم في شيء تكميم الظواهر المدروسة (=أي التّعبير عنها بلغةٍ كميّة رياضيّة) جميعها؛ إذ في جملتها ما لا يَقْبَل مثل ذلك التّكميم من الظّواهر غير الصّمّاء؛ مثل الظّواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة.

لا يغيّر هذا كلّه من حقيقة أنّ مطلب الموضوعيّة ظلّ، طويلاً، هدفًا لكلّ معرفة تتغيّا بلوغ نتائج مقنعة، بل ظلّ المعيار الوحيد الذي تُقاس به المعرفة العلميّة، والفيصل الذي يَنْماز به ما هو معرفيّ وما هو إيديولوجيّ في الفكر.