لم تملك الهيئات الدينية والإسلامية والفرنسية الثلاث، التي انسحبت من مبادرة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، ولم توافق على ما تنوي إصداره "شرعة المبادئ"، لم تملك أي حُجج دينية أو سياسية للاعتراض على هذه الشرعة، بل قالت في بيانها الانسحابي المشترك: إن هذه الشرعة سوف تُقلل من مستويات الثقة بين مُسلمي فرنسا والأمة"، قاصدين الأمة الإسلامية.
بمعنى، أن هذه الهيئات التي أحدثت شرخاً في أكبر مؤسسة مدنية تدافع عن حقوق وصورة وحضور مسلمي فرنسا في المدن والحياة العامة الفرنسية، لم تفعل ذلك لأسباب دينية، معترضة على مضامين "شرعة المبادئ" المنوي إصدارها، والتي تتقصد تقليل مستويات سوء الفهم بين مسلمي فرنسا وباقي مواطني الدولة الفرنسية، بل فعلت ذلك لسبب سياسي، مرتبط بعلاقة هؤلاء المسلمين مع أناس آخرين خارج الدولة الفرنسية، الذي يسميهم بيان الهيئات المنسحبة بـ"الأمة الإسلامية"، لكنها فعلياً، وحسبما تثبت تفاصيل هوية تلك الجهات المنسحبة، أنما هي فقط السلطة والنظام السياسي التركي، الذي يقدم الرعاية لهذه الهيئات.
بدأت الحكاية منذ أواخر الصيف الماضي، بعدما نشرت وسيلة إعلام فرنسية صوراً مسيئة لنبي المسلمين، مما أثار موجة تنديد شعبية واسعة، بالذات بعدما رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تقديم اعتذار عما جرى، مُعتبراً أن الحريات العامة في الدولة الفرنسية تكفل ممارسة ذلك، مما أحدث سوء تفاهم عميق، اُعتبرت فيه السلطة والدولة الفرنسية، كجهة تتبنى تلك الإساءة الموجهة للرمز الإسلامي الأكثر قداسة.
واستغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تلك الموجة العاتية من سوء الفهم، وصار يتبنى حملة مناهضة تستعمل خطاباً شعوبيا ضد فرنسا ورئيسها ماكرون.
وحينما وصل التنابذ بين الطرفين إلى ذروته، اختار الرئيس الفرنسي وحكومته تواصلاً حميمياً مع الهيئة المدنية الأوسع تمثيلاً وفاعلية في أوساط المسلمين الفرنسيين، المتمثل بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يضمن المئات من المؤسسات والمنظمات والجهات المدنية الإسلامية في فرنسا، لردم تلك الهوة من سوء الفهم، بين الدولة الفرنسية ومسلميها.
توصل الطرفان إلى ما أسماه بـ “شرعة المبادئ" التي تضم مجموعة من القيم والأسس التي تبني علاقة المسلمين الفرنسيين مع دولتهم، تقر بالتزامهم بقوانين الدولة الفرنسية ودستورها وشكل النظام السياسي الذي يؤطرها، معتبرين أن حرية التفكير والعقيدة والضمير هي أساس علاقة المواطنين الفرنسيين، بما في ذلك المواطنون المسلمون.
بهذا المعنى، فإن "شرعة المبادئ" إنما تخلق روابط شديدة المتانة بين مجتمع مسلمي فرنسا وباقي مكونات المجتمع الفرنسي، ومع الدولة الفرنسية، وهو بالتالي يعني أن مسلمي فرنسا لم يعودوا مُجرد جاليات لدول أخرى في الأراضي الفرنسية، تستطيع هذه الدول أو تلك تحريكهم ضد الدولة أو المجتمع الفرنسي، كلما حدث خلاف سياسي بين هذا الدولة أو تلك مع فرنسا.
مجموع تلك الفاعلية كان مناهضاً لتوجهات السياسة الخارجية التركية، التي كانت وما تزال تعتبر مسلمي أوربا أداة في يدها، تستطيع أن تستخدمهم وقتما تشاء. لأجل ذلك حرضت الهيئات الدينية الثلاث الكبرى المرتبطة بها، حركة "إيمان وممارسة" و"اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا" و"الاتحاد الإسلامي مللي غوروش في فرنسا"، على أن تنسحب من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، محاولة إحباط مساعي صك تلك الشرعة.
ستنتج هذه العملية مستويين متباينين من الوقائع السياسية، ستخلق استقطاباً بالنسبة لمسلمي فرنسا.
فإقرار الشرعة سيؤدي مباشرة لخلق فضاء داخلي لمسلمي فرنسا، ترفع من مستويات اندماجهم الوطني والتزامهم بالقيم والآليات والقوانين الحاكمة لعلاقات المجتمع الفرنسي وروابطهم مع دولتهم الفرنسية. وقبل ذلك فإنها ستكون أهم أداة لضبط وقمع ديناميكيات التطرف، فالشرعة تدفع نحو إعادة تشكيل و"تشذيب" هيئات الأئمة في البلاد، وبالتالي إبعاد أي تشكيلات دينية قد تحرف من المرامي الروحية والعقائدية والأخلاقية للدين ليكون أيديولوجيا سياسية، تربط مسلمي فرنسا مع زعامات سياسية خارج فرنسا.
لكنه أيضاً قد يعني انشقاقاً على مستوى الروابط الداخلية المجتمعية والثقافية لأبناء الديانة الإسلامية في فرنسا. فانشقاق الهيئات المدنية الثلاث إنما يعني خلق هيئة دينية مدنية موالية ومرتبطة بتركيا، مناهضة ومنافسة للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.
هذه الهيئة التي ستعني بين الكثير من الأفعال التي ستمارسها خلق صراع اجتماعي ورمزي بين المسلمين الاتراك والمنحدرين من أواسط آسيا، وبين غيرهم من المسلمين الفرنسيين، وهي تجربة قد تتكرر في أكثر من دولة أوربية، فيما لو نجحت في حالتها الفرنسية.