العلاقة المتوترة في تونس بين حركة النهضة والرئيس قيس سعيّد، ليست مجرد خصومة سياسية يفرضها تبدل الوقائع أو اختلاف المواقف، بل هي - في نظر النهضة - حالة عداء مستمرة. تحول الرئيس إلى "عدوّ" جديد في عرف النهضة وقيادييها وأنصارها وكتائبها الإلكترونية، والحالة ليس أيضا حالة جديدة، أو خاصة بالرئيس سعيّد، بل إن الحركة دأبت على صنع حالة عداء مع شخصية أو حزب أو تيار في كل مرحلة سياسية.

منذ العام 2011 ومنذ إطلالة حركة النهضة على الحياة السياسية التونسية، قادمة من المنافي ومن واقع المنع والعمل السري، بدا أن الحركة لا يمكنها أن تعيشَ خارج مدارات العداء، الذي يعبّر بدوره عن حالة رعب دائمة من كل خصم سياسي أو حتى من ناقد أو محذّر. في هذا المدار المتوجس على الدوام، بدا أيضا أن تحالفات النهضة تكتيكية قصيرة ويمكنها أن تتغير لأيّ سبب، لتبارح النهضة اطمئنانها وتحول حليفها إلى عدوّ لأيّ سبب وإن كان نقدا يمكن أن يكون في صالح الحركة.

مفيد التذكير هنا أن الرئيس سعيّد كان رهانا انتخابيا مفيدا لحركة النهضة أثناء انتخابات العام 2019، وكانت الدعوة لانتخابها محل إجماع نهضوي صدح به رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي دعا يوم الـ9 من أكتوبر 2019 أنصار الحركة إلى "دعم المرشح القادر على تجميع التونسيين، وغير المتورط بتبييض الأموال.. لا تصوتوا لمتهمين بتهرب ضريبي أو بتبييض أموال، بل لمن يحاربون الفساد".

في تحول قيس سعيّد من حليف ورهان انتخابي إلى خصم وعدوّ، تزامنا مع تحول نبيل القروي من خصم سليل المنظومة القديمة وتحوم حوله شبهات فساد، إلى حليف يحظى بدعم ودفاع دائمين من قبل النهضة، مسيرة تلخص التقلب النهضوي في التعامل مع شركاء العملية السياسية، وتختصر ظاهرة صنع الأعداء عند النهضة.

المتتبع لسجلّ المواقف النهضوية من الخصوم والحلفاء يمكنه أن يتبين بيسر وجلاء أن النهضة، بقدر ما تتقن تدمير حلفائها؛ المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات شركاء مرحلة الترويكا الأولى، ثم نداء تونس لاحقا، فإنها تجيدُ أيضا تحويل الحلفاء إلى خصوم وأعداء. هنا يصبح التحالف عند النهضة ضرورة تكتيكية قصيرة المدى لا يمكنها أن تدوم، وهي تؤدّي - في الغالب - إلى تصدّع كل جسم سياسي يقترب من مدارات النهضة، مثلما يصبح "ابتكار" العدوّ وصنعه ضرورة أخرى لا يمكن للحركة أن تستمر سياسيا دون وجود عدوّ أو أعداء يتمركز حولهم خطابها السياسي وتبريراتها وقراءاتها للوضع.

في أكتوبر 2012، قال راشد الغنوشي، إن حزب نداء تونس (حزب الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي) أخطر من التشدد السلفي، وأكد أن "السلفية (المستشرية وقتها) ظاهرة خارج مؤسسات الدولة ذلك فإن مقاومتها أسهل من مقاومة ظاهرة عودة التجمع (حزب الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي) المتغلغل في مؤسسات الدولة والمتورّط في الفساد والنهب والسرقة والتعذيب". موقف لم يحل دون اعتماد النهضة في العام 2013 على نداء تونس للخروج من العزلة، عندما ارتفع منسوب الفعل الإرهابي، وعندما تعالت الاحتجاجات الرافضة للاغتيالات والتي حمّلت النهضة المسؤولية السياسية في ذلك.

تحول النهضة "الرشيق" من الشراكة إلى العداء، والعكس، لا يعود فقط إلى متغيرات الوضع السياسي والحزبي، أو إلى ما تفرزه صناديق الاقتراع، بل يعود أساسا إلى منشئها الفكري، ونظرتها إلى المجتمع وإلى الآخر المختلف فكريا أو سياسيا. طبعا تسجل النهضة عداءها الدفين والدائم لكل حركة تتبنى مبدأ الدولة المدنية والعلمانية تصورا سياسيا، ولذلك سَيّجت علاقتها بالأحزاب اليسارية والوسطية بجدار سميك من العداء والخصومة، تتخلله حملات تشويه وتأثيم لكل الأحزاب والرموز اليسارية، باعتبارها أحزابا "استئصالية راديكالية تروّج للكراهية".

في منشأ قدرة النهضة الدائمة على اختراع عدوّ، يتمركز حوله خطابها، دواع فكرية وسياسية متداخلة. النهضة سليلة حركة الإخوان المسلمين، (وإن أنكرت ذلك الانتماء أو تملّصت منه عندما تفرض الوقائع السياسية أن تنحني الحركة لمرور العاصفة) تستلهم خطابها ومواقفها من المدونة الفكرية للإخوان، التي تأسست في العام 1928 على منطلق مركزي هو "الله غايتنا، الرسول قدوتنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا"، وقد تحوّل هذا الشعار المركزي إلى مفاهيم مركزية تتكئ عليها الحركة (وتبنتها جماعات إسلامية كثيرة) وهي العصبة المؤمنة، والحاكمية والجهاد. استلهمت جماعة الإخوان من ذلك الشعار وما اشتق منه من مفاهيم، كل مواقفها من المجتمع والدولة والأحزاب والآخر المختلف.

وفي هامش هذا المتن الفكري الدفين شيدت الحركات الإخوانية ضربا من التعالي الفكري والسياسي عن بقية الفاعلين السياسيين، فتحول ذلك إلى نوع من "مركزية الذات" الفكرية، التي تقدر الجماعات الإخوانية أنها أفضل وأسمى وأكثر نقاء من كل الخصوم. ومن هذا المنطلق ادّعت جماعة الإخوان أنها تحل محل المجتمع بأسره، وتحولت التيارات الأخرى المختلفة عن الإخوان إلى درجة من درجات "المجتمعات الكافرة" التي تتوجّب محاربتها. لم تكن النهضة بعيدة عن هذا المنهل، بل هو مازال ساري المفعول في مواقف النهضة وردود أفعالها، وينسحب حتى على القيادات التاريخية للنهضة التي جاهرت بنقدها للحركة، أو لرئيسها راشد الغنوشي، وبمجرد انضمامها إلى قائمة الناقدين سجلت نفسها في سجل أعداء الحركة الذين يكيدون لها. مفيد التذكير هنا بما يتعرض له القيادي النهضوي عبدالحميد الجلاصي من تشويه وتأثيم بعد أن جاهر بنقده لأداء الحركة ومواقف رئيسها. الجلاصي الذي قدم نصحا سياسيا وفكريا مفيدا للحركة وللبلاد، تحوّل بسرعة إلى عدوّ جديد في خدمة أعداء الحركة والثورة، كما روجت الصفحات الإلكترونية التابعة للنهضة، وكان بذلك مثل من بارح دار الإيمان إلى دار الكفر، لأن القيادات والقواعد النهضوية مواظبة على اعتبار الحركة "دار الإسلام" وما خالفها "دار حرب".

في قائمة أعداء النهضة كل التيارات اليسارية التي تمتلك خطابا اقتصاديا واجتماعيا عميقا وإن كان طوباويا. وفي قائمة أعداء النهضة كل الأحزاب الوسطية التي تتبنى مبدأ الدولة المدنية، والأحزاب الدستورية سليلة النظام القديم، التي لم تقبل الاقتراب من سماء الحركة وحساباتها، وكل الشخصيات الحقوقية والفكرية والفنية التي تنتقد ازدواجية الحركة وانتهازيتها، ولا تقف قائمة أعداء النهضة على الداخل التونسي بل تمتد إلى خارج البلاد، لترسم فيها أقطارا عربية خليجية اعتبرت في عرف الحركة متآمرة على الثورة التونسية وعلى سياق الانتقال الديمقراطي، إضافة إلى قنوات تلفزيونية عربية وصحف دولية ومنظمات قيّمت أداء الحركة وحصاد سنوات حكمها بأنه سلبي وأضر بالبلاد، فكان أن صنّفت في سجل الأعداء.
على ذلك فإن حديث النهضة عن الوطن والمواطنة والمشترك الوطني ليس سوى ادعاء سطحيّ تدحضه الوقائع. يسهل أن يبدو ذلك مجرد شعارات فضفاضة معدّة للترويج السياسي، بمجرد أن "يتجاسر" قيادي سياسي (كان إلى وقت قريب محل تهليل نهضوي) على نقد موقف الحركة أو أدائها ليتحول إلى شيوعي حاقد أو تجمعي استئصالي، ويستنفر أنصار الحركة كل جهدهم في تأثيمه ويعودون في ذلك إلى منهل يقوم على "الأخوّة الإسلامية" التي تعتبرها جماعة الإخوان أحد عناصر القوة الثلاثية، وهي قوة الإيمان والعقيدة، وقوة الأخوّة والرابطة، وقوة الساعد والسلاح عندما لا يجدي غيرها.

نخلصُ إلى أن عداء النهضة الراهن لقيس سعيّد ليس نابعا من وضع سياسي راهن أو مؤقت، بل هو ناتج عن نظر النهضة إلى الآخر المختلف، والذي يتخذ منطلقاته من نسيج فكري عميق وقديم، لطالما ادّعت الحركة أنها غادرته نحو فضاء انتماء حديث أرحب، أكثر ارتباطا بأشكال التنظّم الحديثة، لكن تبين أن كل ذلك مجرد زيف مراوغ.