يحتفل العالم بأسره بعد أيام قليلة ولأول مرة بـ"اليوم العالمي للأخوة الإنسانية"، وذلك بعد أن تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي قرارا بإعلان الرابع من فبراير من كل عام ليكون "اليوم العالمي للأخوة الإنسانية"، وهي مبادرة قدمتها كل من مصر والإمارات والسعودية والبحرين واعتمدتها الأمم المتحدة بتوافق كبير في الآراء.
جاء ذلك تخليدا لذكرى حدث إنساني كبير حمل رسالة سلام وإخاء ومحبة للعالم بأسره والمتمثل في توقيع وثيقة "الأخوة الإنسانية والسلام العالمي والعيش المشترك" في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2019، من قبل الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان.
لم يكن غريبا أن تكون هذه المبادرة الإنسانية الخالدة إماراتية مصرية، وذلك اتساقا مع نهج الدولتين الحاسم في ترسيخ مناخ الحب والإخاء والتعايش السلمي وقبول الآخر، واحترام حرية الاعتقاد وإرساء قيم التعاون بين الجميع، فقبل أقل من شهر من استضافة أبوظبي للقاء التاريخي بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان والذي شهد توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية في فبراير 2019، كانت القاهرة على موعد مع حدث تاريخي آخر لا يقل أهمية وينطلق من التوجه نفسه ويصب في الاتجاه نفسه الذي يحث الشعوب كافة على التسامي بالقيم البشرية ونبذ التعصب والكراهية.
ففي يناير من العام نفسه وفي تجسيد حقيقي لمعنى الوحدة الوطنية، وفي ترسيخ جدي لمبادئ التعايش السلمي، شهدت مصر وقتها حدثا استثنائياً غير مسبوق سجل بمداد من نور في صفحات التاريخ، تمثل في تزامن افتتاح أكبر مساجدها مع أكبر كاتدرائية فيها بالعاصمة الإدارية الجديدة واللذين تم الانتهاء من تنفيذهما خلال 18 شهرا فقط، في ظل حضور رسمي مصري واسع وتمثيل دولي وعربي بارز.
لوحة بديعة نقلتها في حينها كثير من وسائل الإعلام الدولية، وأشاد بها كثير من قادة العالم وعلى رأسهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي غرد وقتها تعليقا على هذا المشهد بقوله "إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ينقل بلاده إلى مستقبل أكثر شمولا"، كذلك الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح الإماراتي، الذي شارك في هذه المناسبة على رأس وفد إماراتي رفيع المستوى ضم عددا من القيادات والمفكرين ورجال الدين المعنيين بقيم التسامح، والذي ثمن الجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة السياسية في مصر في تعزيز السلم الاجتماعي، والتي كان لها أبلغ الأثر في إرساء مبادئ الأخوة والتعاون بين فئات المجتمع المصري كافة.
الأجمل والأكثر دلالة ورمزية في هذه اللوحة الحضارية هو اللحظة التاريخية التي شهدت تبادلا للأدوار بين البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، فالأول ألقى كلمة في افتتاح مسجد "الفتاح العليم"، والثاني شارك بكلمة في افتتاح كاتدرائية "ميلاد المسيح"، ولعل ما جاء في كلمة أبرز رجال الدين المسيحي في الشرق في افتتاح المسجد وكلمة أبرز علماء الدين الإسلامي في افتتاح أكبر كنائس الشرق الأوسط يعد أفضل تجسيد وخير إحياء لقيم إنسانية نبيلة، أراد بعض المتطرفين اختطافها أو طمسها أو إنكارها مثل قيم التسامح والسلام والمواطنة والاعتراف بالآخر المختلف، والتآخي والعيش المشترك، بغض النظر عن الانتماء الديني، حيث وصف البابا تواضروس الثاني تزامن افتتاح مسجد الفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح بالمناسبة "غير المسبوقة في التاريخ"، مشيداً بتعانق مآذن المسجد الكريم مع منارات الكاتدرائية، معتبرا أنها صفحة جديدة في كتاب الحضارة المصرية العريقة ومصر التي علمت العالم فن الأعمدة، فكانت المسلة في العصور الفرعونية، وكانت المنارة في العصور المسيحية، والمئذنة في العصور الإسلامية".
هذه هي مصر وهكذا هم المصريون.. لا فرق بين قبطي أو مسلم، ولعل هذا ما أرادت الدولة المصرية التأكيد عليه، ولا تزال، بإصرارها قبل عامين على أن يكون أكبر مساجدها مجاورا لأكبر كنائسها، وأن يكون افتتاحهما متزامنا، وأن يكون مواكبا لاحتفالات مصر بعيد الميلاد المجيد، وهذه هي الإمارات التي أضحت نموذجا مثاليا للمجتمع المتعدد دينيا وثقافيا، وصارت مثالا يحتذى عالميا في مجال قبول الآخر والتعايش معه بعد أن رسخت نهجها الثابت في تعزيز منظومة قيمية وأخلاقية مازالت تجد عراقيل وصعوبات جمة لتثبيت أقدامها في أماكن عدة في العالم، منظومة تعتمد بالأساس على ترسيخ عولمة من نوع جديد، عولمة إنسانية وروحية في المقام الأول، لا يصنف فيها البشر وفقا لدياناتهم أو جنسياتهم أو عرقياتهم أو لونهم أو طبقتهم الاجتماعية أو حجم ما يمتلكونه من ثروة أو نفوذ، بل نمط جديد من العولمة يعتمد بالأساس على إيجاد وتعزيز هوية إنسانية مشتركة تجمع شعوب العالم ولا تفرقها بهدف توطيد السلم بين الدول وداخل المجتمعات.
لذا لم تتوقف يوما مبادرات الإمارات في نشر قيم التسامح ودعم الحريات الدينية ولن تتوقف هداياها للإنسانية، ولن يكون آخرها مبادرة "بيت العائلة الإبراهيمية"، الذي يمثل صرحا يجمع الديانات السماوية الرئيسية الثلاث ويجسد قيم التسامح والعيش المشترك، ويعد ترجمة على أرض الواقع لوثيقة "الأخوة الإنسانية والمقرر افتتاحه العام المقبل في أبوظبي والذي سيضم كنيسة ومسجدا وكنيسا تحت سقف صرح واحد، وذلك "ليشكل للمرة الأولى مجتمعا مشتركا تتعزز فيه ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات"، ليشكل بذلك مركزا إضافيا لنشر قيم السلام والأخوة الإنسانية والتسامح الديني والتعايش المشترك، لذا لم يكن مستغربا أن يصف قداسة البابا فرنسيس دولة الإمارات وشعبها بما ينطبق عليهم فعلا من صفات وما يستحقونه من خصال، وذلك في كلمته التاريخية التي وجهها للإمارات دولة وحكومة وشعبا لهم قبل زيارته في عام 2019 حين وصفها بأنها " دار الازدهار والسلام، دار الشمس والوئام، دار التعايش واللقاء"، وأنها " تلك الأرض التي تسعى لأن تكون نموذجاً للتعايش والأخوة الإنسانية واللقاء بين مختلف الحضارات والثقافات، حيث يجد فيها الكثيرون مكاناً آمنا للعمل والعيش بحرية، وتحترم الاختلاف"، ووصف شعبها بأنه "شعب يعيش الحاضر ونظره يتطلع إلى المستقبل".
لكل هذا كان متوقعا ومنطقيا هذا النجاح الكبير لدبلوماسية الدولتين الشهر الماضي في حشد دعم وتأييد المجتمع الدولي لمبادرتهما المشتركة لتخصيص يوم على التقويم الأممي يحتفل فيه البشر جميعا بالقيم الإنسانية النبيلة المشتركة التي تجمعهم، قيم عابرة للاختلافات العرقية والدينية والمذهبية، فما يجمع البشر أكثر بكثير مما يفرقهم.