ثائر أو بالدارجة الليبية (تائر) هي الجملة المفتاح في كل أزمات ليبيا السابقة والحالية وربما المستقبلية إن لم يتم التعامل معها بشكل جاد وسريع يضمن احتكار الدولة للقوة.
فتلك اللفظة أو هذا الوصف كان جديرا باحترام صاحبه قبل أن يتحول مصدرَ دخلٍ وتربُّح بدأت وقائعه في سبتمبر 2011 بمنح مكافأةٍ مالية قدرُها 2000 دينار ليبي لكل حامل سلاح في ليبيا.
ومع انتفاء السبب في حمل السلاح باغتيال الزعيم الليبي السابق معمر القذافي، بات السلاح موجها بصورة واضحة ومباشرة إلى صدور الليبيين ومستقبلهم، إذ قبل هذا التوقيت بقليل، وتحديدا في أغسطس 2011، كان الزعيم الليبي السابق قد خرج من العاصمة طرابلس متوجها إلى مدينة سرت وسط البلاد، بما يعني انتهاء سطوته السياسية والعسكرية بشكل كامل إلى أن تم اغتياله في 20 أكتوبر 2011.
وبغض النظر عن موقفي الرافض تماما لحمل السلاح في وجه الدولة تحت أي مبرر، إلا أنه كانت هناك بعض المحاولات الشعبية والوطنية الجادة لتصحيح المسار سريعا خاصة بعد انكشاف الأدوار الإرهابية المشبوهة التي تقف خلف هذا الانفلات وتعززه.
وفي أغسطس 2011، وبخروج الزعيم الليبي من طرابلس وانتهاء فاعليته السياسية وتهديده لحياة الثائرين عليه بما يعني انتفاء أسباب الخروج عليه واستمرار حمل السلاح، أذكر أني كنت ضيفا في منزل أحد الليبيين في إجدابيا (شرق ليبيا) كان قد دعاني في ذلك الوقت إلى مأدبة غداء بعد تسليم سلاحه وعودته من بنغازي (مقر المجلس الانتقالي) إلى إجدابيا للبدء في استئناف عمله كطبيب والذي انقطع عنه بفعل الخروج على القذافي والظروف التي شهدتها البلاد.
ولم يكن الدكتور (إبراهيم) وهذا اسمه الأول متفردا في تسليم سلاحه والعودة لحياته الطبيعية وعمله، بل تبعه عدد ليس بقليل من الشعب الليبي العادي غير المؤدلج ممن كانوا متأثرين بحملات التخويف من عودة القذافي للانتقام منهم والتنكيل بهم.
وزاد الإقبال أكثر على تسليم السلاح للجسد المؤسسي الناشئ (المجلس الانتقالي) بعد إصدار المغفور له محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي (رئيس الوزراء) قرارا بجمع السلاح والتوجُّهِ نحو بناء الدولة ومؤسساتِها، والعمل على تعويض الليبيين عما فاتهم من ركْـب التطور وتوظيف الثروات الليبية لصالح الشعب الليبي.
إلا أن تنظيم الإخوان الإرهابي الذي كان قد قطع شوطا كبيرا تحت ستار الثورة في تسليح ميليشياته المؤدلجة التي تكشفت حقيقتُها بعد اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس؛ رئيس أركان الجيش الليبي في يوليو2011، وانصراف عدد كبير من حملة السلاح عنهم. ومع قلة أعداد المنتسبين إليه، زادت حاجة التنظيم وقتها إلى تثبيت الوضع المنفلت والسعي للزج بأعداد أكبر من الشباب في أتون الحرب، مع ما صاحب هذه الخطوات من انتشار كبير للعصابات الإجرامية والمافيات التي تنشأ في الفوضى.
وجاءت الخطوة الأولى في شكل هذا القرار الذي صدرت به المقال، وهو قرار دفع به عدد من أعضاء التنظيم داخل المجلس الانتقالي بمنح كل حامل سلاح (تائر) مبلغ 2000 دينار ليبي، وهو مبلغٌ ضخم نظرا لرخص الأسعار في ذلك الحين كمكافأة له، إضافة إلى عوامل استدراج وجذب أخرى عملت على ترميز كل (تائر) اجتماعيا، مع نسج قصص وترويجها حول صولاته وجولاته.
ومع أنه ليس مبررا، إلا أن ارتفاع أعداد البطالة أسهم في ذلك، إلى جانب أصحاب الحرف والمهن (مع كامل الاحترام لهذه المهن والحرف)، لكنهم هجروها سعيا وراء التربّح السريع والبريق السلطوي الذي وجدوه في حمل السلاح على حساب قيام الدولة، وهو ما تناغم مع عمل التنظيم الإرهابي بدأب على استقدام مسلحين من خارج ليبيا، وخلق تهديدات جديدة، وعرض محفزات مالية وسلطوية.
كانت النتيجة الطبيعية لهذه الحالة من الإفساد العام هي تفاقم الورم الميليشياوي ووصوله إلى هذا الحجم؛ 35 ميليشيا كبرى بحجم جيوش تجمع تحت سطوتها وترعى أكثر من 300 ميليشيا صغيرة تشكل حجر عثرة يحول دون تحقيق حد أدنى من التوافق الليبي ويهدد نجاح المسارات الدولية الساعية لإنهاء الأزمة.
الأمر الذي يستدعي وقفة ليبية جادة لحل مشكلة الميليشيات وتفكيكها، وإنهاء ثقافة السلاح والانفلات بشكل كامل، وليس على طريقة التسكين بدمجها في الأجساد الرسمية أو شبه الرسمية.