لا يبتعد المزاج الخليجي حيال لبنان عن ذلك الدولي الذي أظهرته العواصم الكبرى وفرضته المؤسسات المالية في التعامل مع حال هذا البلد.
والحال إن المجموعة الخليجية، على تعددها وخلافها الداخلي قبل قمة العلا، بقيت ملتزمة بسقف منخفض في التعامل مع لبنان متّسقة مع موقف دولي عام، تقوده الولايات المتحدة، حيال المطالبة بالإصلاح من جهة، والتخلص من هيمنة الميليشيا من جهة ثانية.
وعلى الرغم من أن المبادرة الفرنسية، التي قادها الرئيس إيمانويل ماكرون وقادته إلى بيروت مرتين خلال الأشهر التي تلت كارثة انفجار مرفأ بيروت، سعت إلى اختراق التصلب الدولي (الأميركي خصوصا)، إلا أن باريس فشلت، حتى الآن، في إحداث الخرق التي تتمناه، بسبب تنافس دور باريس مع أدوار طهران وواشنطن، وبسبب صلابة موقف عربي (خليجي خصوصا).
لا يشعر الخليجيون بأي حرج من تشدد موقفهم في مقاربة الشأن اللبناني. تعبر دول مجلس التعاون الخليجي عن خيبة أمل من تاريخ طويل من الاستثمار السياسي والاقتصادي من أجل إعمار لبنان ودعم نموه، ومن بلادةِ أهل الحكم في لبنان خلال العقود الأخيرة في التعامل مع الدعم الخليجي كمعطى بديهي غير مشروط ينهل ثباته من مسار تاريخي عتيق.
ولا يشعر الخليجيون بأي تحفظ في اعتبار أن علاقتهم مع لبنان، وعلى الرغم مما للبلد من مكانة في الوجدان الخليجي العام، تتأسس على المصالح والاحترام المتبادل، ولن تستمر وفق نمط المعادلات الخاسرة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة.
وفيما سعت فرنسا لإنجاح مبادرتها اللبنانية من خلال توسل دعم خليجي، إلا أن الموقف الخليجي العام لم يتغير في مسألة أنه بات من العبث مساعدة بلد واقع في أسر معسكر معاد يُقاد من طهران، كما من الهراء ضخ تمويلات داخل هيكل اقتصادي تتحكم به مافيات الفساد والسلاح. كما أن الخليجيين لم يرتاحوا إلى مقاربة ماكرون اللبنانية التي تتعامل مع إيران وحزبها بصفتهما أصلا في المعادلة الداخلية لا علة وجب أولاً اجتثاثها.
لا يبتعد وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله عن هذا السياق، ويعبر عنه بإيجاز يعكس تراجع مرتبة لبنان داخل الأولويات الخليجية. لفت قبل أيام أن “لبنان لن يزدهر بلا إصلاح سياسي ونبذ ميليشيات حزب الله”. قال الرجل إن "لبنان يمتلك مقومات للنجاح لكنه يحتاج للإصلاح".
وفق تلك الأبجدية مطلوب من بيروت تنفيذ إصلاحات توقف الهدر وتحاسب الفساد وترشّق الهيكل الاقتصادي للبلد، وهو مطلب بات دوليا بامتياز، ومطلوب تخلص دولة لبنان من قبضة حزب الله، وابتعاد بيروت الحاسم والحازم عن أجندات الحاكم في طهران.
وفيما يرصد المراقبون أي تواصل يجري بين لبنان والخليج، إلا أن كل الاتصالات تكشف أن المزاج الخليجي لم يتبدل سياسيا حيال بيروت، مع التأكيد على استمرار المجموعة الخليجية في تقديم المعونة الإنسانية (فقط) للبنان وسكانه لمواجهة الكوارث لا سيما تلك التي تمثلها جائحة كورونا.
ولئن كتب الكثير من التأويلات عن الزيارة التي قام بها الحريري إلى تركيا واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان، فإن منطق الأمور يدفع إلى الاعتقاد أن الحريري تحرك وفق أجواء ما صدر عن الأتراك والخليجيين مؤخرا عن ضرورات التوافق والانفتاح والحوار. وإذا ما صح أن رئيس الحكومة اللبناني المكلف ينشط وفق هذا الهامش، فإنه قد لا يكون بعيداً عن باريس داخل سياق الحوار التركي الأوروبي الجاري لطي صفحة التوتر الماضية.
والحال أن الموقف الخليجي من لبنان يستند على قاعدتين: الأولى لها علاقة مباشرة بموقع إيران المقبل في المنطقة وما ستغيره مقاربة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن داخل الملف الإيراني، وبالتالي ما سيعنيه ذلك من تداعيات على نفوذ إيران وحزبها في لبنان.
والثانية لها علاقة بموقف أهل الحكم في لبنان وجدية انتهاجهم خيارات الإصلاح والعزم الصريح والمعلن لجعل البلد سيدا مستقلا عن مزاج الولي الفقيه في إيران.
ولئن تمارس إيران نفوذا متقدما في العراق كما هو حالها في لبنان، إلا أن الخليجيين يلمسون على الأقل جهدا صعبا لحكومة بغداد وجانب عريض من نخب البلد السياسية لانتشال بغداد من تبعية قرارها لطهران. ويستدرج تقدير الخليجيين لهذا السعي دعما له من باب "أن استقرار العراق هو عنصر أساسي لاستقرار المنطقة والأمن العربي"، وفق تقييم وزير الخارجية السعودي، منوها بما تقوم به حكومة مصطفى الكاظمي من أعمال قوية لبناء المؤسسات العراقية".
قبل أسابيع، وبموازاة دعوة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى الحوار مع الرياض، اتهم أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله السعودية بالتخطيط لاغتياله. لسان حال الخليجيين يقول إن بيروت باتت منبراً دقيقا وصادقا يعبر عن نوايا إيران العدائية الحقيقة، في وقت يصدر عن طهران نسخات مزيفة تعبر عن نفاق مكشوف.
وفي حسابات الربح والخسارة، وإلى أن تستعيد بيروت سيادتها، فإن بوصلة الخليجيين ستبقى شاردة عن وجهات لبنان.