تتبدّى العلاقةُ بين السّياسيّ والدينيّ في الإسلام، في أحد تَبَدّيّاتها، في العلاقة بين السّلطة والمعرفة الدّينيّة.
ولكنّ هذه تنتمي إلى علاقةٍ أكبر وأوسع هي علاقة السّلطة بالمعرفة، أي تلك التي كان طرفاها الرئيسان هما: السّلطان أو صاحب السّلطة السّياسيّة – وقد يكون وزيرًا- والعالِم (عالِم الدّين)/الكاتب.
وهذه علاقة موضوعيّة، أي تولّدت من حاجة موضوعيّة متبادَلة: حاجةُ صاحب السّلطة إلى العارِف (مالِك المعرفة الدّينيّة أو المعرفة بشؤون الحكم)، وحاجة الأخير إلى السّلطان: إمّا سعيًا وراء حدْبه عليه وحمايته له، أو ابتغاءَ إِنفاذ السّلطان السّياسةَ التي أشار عليه بها.
تشير العلاقةُ هذه إلى فئتيْن، إذن، من فئات الاجتماع الإسلاميّ: فئة أهل السّياسة والسّلطة وفئة أهل القَلَم والمعرفة أو، قل، فئة السّياسيّين وفئة العلماء (بالمعنى القديم للعلم).
وهي إذ تشير إلى فئتين، تُسَلِّم بأنّ الأمر يتعلّق، في عملهما، بوظيفتين: الإِمْرة والرّأي.
والوظيفتان مستَقِلّةٌ الواحدةُ منهما عن الأخرى بحيث لا تستغرقُها، ولكنّهما في المكانةِ والمرتبيّة متفاوتتان، وتحتلّ الأولى (أي الإِمرة) موقع المركز فيما تدور الثّانيّة على مركزها، وتَنْحَكِمُ حركتُها بإرادة الأولى شأنها في ذلك شأن أيّ وظيفةٍ أخرى في الجسم الاجتماعيّ، مثل القضاء أو إمارة الجند أو ولاية الخراج، وإنْ كانت وظيفةُ الفقيه أو الكاتب السّلطانيّ أقلّ من هذه شأنًا؛ على الأقلّ لدى مَن لديه السّلطة والإمرة ويدير هذه جميعَها من فوق.
والانفصال والتّمايُز هذا بين الوظيفتين من طوارئ التّطوّر التي طرأتْ على الاجتماع الإسلاميّ، وليس من بنية التّكوين ومن مشهده التّأسيسيّ. لقد اجتمعا معًا في العهد النّبويّ وفي عهد الخلفاء الأربعة بعده، فكان الخليفة صاحبُ الإمرة وصاحب الرّأي (الفقيه والعارف بشؤون الإمامة) في الوقت عينه، وبعبارة ابن العربيّ كان الأمراء هُم أنفُسهم الفقهاء.
ثمّ ما لبثا أنِ انفصلا وتَمَايَزَا، بعد انتقال الخلافة إلى مُلْك، فأصبح الأمراء جسمًا اجتماعيًّا مستقلاًّ والفقهاء جسمًا آخر يقابله، لتبدأ – بعد ذلك – فصولٌ متعاقبة من محاولات الاستيعاب المتبادَل كان واضحًا، منذ البداية، أنّها محاولات غير متكافئة على صعيد قواها ومواردها.
ادّعى العالِمُ من جهته – فقيهًا كان أو كاتبًا سلطانيًّا – حيازتَهُ لبضاعةٍ عزيزة على السّلطان هي : المعرفة بشؤون الإمامة وإدارة الحكم لا مندوحة لصاحب السّلطة عنها. وهذه، عند الفقيه، هي العلم الشّرعيّ بشروط الإمامة الشّرعيّة من وجهة نظر قواعد الدّين، فيما هي عند الكاتب العلم بتقنيّات إدارة السّلطة طبقًا لقواعد السّياسة العقليّة والمدنيّة. ولم يكُن السّلطان ليجادِل، يومًا، في أنّ بضاعة العالم هذه مطلوبة ومرغوبة، بل نفيسة، ولا هو تَرَدَّدَ، يومًا، في تقريبه وفي تكليفه وإسناد المناصب إليه، سواءٌ في القضاء أو في الدّواوين، أو حتى استصحابه في مجالسه الخاصّة و، على نحوٍ أخصّ، في المجالس العلميّة التي كان يعقدها بعض الخلفاء وبعض وزرائهم.
وبالجملة، ما كان يمكنُ لفئة العلماء والكُتّاب هذه أن تدّعي – إلاّ في ما نَدَر – أنّها هُمِّشَتْ واستُبْعِدَت من مشهد السّلطة، أو أنّ بضاعتَها العلميّة لم يقع عليها طلبٌ سياسيّ من السّلطة.
غير أنّ بعضًا من العلماء (الفقهاء خاصّةً) خُيِّل إليه أنّ بضاعتَه المعرفيّة تُخوِّل له وضْعَ وظيفة السّلطان تحت رقابة وظيفته هو، وممارسة الحسْبة عليها بحسبانه "ممثّلاً" للشّريعة و "ناطقًا باسمها".
والاعتقادُ هذا مَأْتَاهُ من افتراضٍ خاطئ لدى العالِم/الفقيه بأنّ السّياسة فرْعٌ من الدّين، وليس كيانًا مستقلّ الكينونة والذات، وأنّه ما دام هو – في ظنّه – القائم على أمر حراسة الدّين وإنفاذ أحكامه في الاجتماع الإسلاميّ، حقّ له – بالتّبعة –أن يبْسُط وصايتَه على صاحب السّلطة.
وقد كلّف هذا الوهمُ الفقهاءَ كثيرًا قبل أن يبدأوا يدركون أنّهم مجرّد رعيّة للسّلطان: سلطانُه فوق سلطانهم، وأنّ علمهم لا يعطيهم أكثر من نفوذٍ رمزيّ في المجتمع والدّولة، وأنّه قد يُسخَّر – في أفضل الحالات – لإعانة السّلطان على تدبير أمور إدارة الشؤون العامّة بعدلٍ واستقامة، ومن أن يكونوا جزءًا من الجسم السّياسيّ القائم لا فوقه أو أعلى مقامًا منه.
لم يسقط الكاتب السّلطانيّ تحت إغراء وهم الفقيه ودوره "الإمبراطوريّ"؛ أدرك، منذ البداية، أنّه مجرّد يدٍ للدّولة تخطُّ ما في مصلحة الدّولة، واجتهد – في أفضل الحالات – في تحسين أداء صاحب السّلطة وتأنيقه. كان يريد نفسَه، منذ البداية، عقلاً للسّلطان لا ضميرًا ووجدانًا.
لذلك نجح في أن يحتلّ مكانَه الأثير قبل أن يعيد الفقيهُ النّظر في أزعوماته فيَطْفَق باحثًا لنفسه عن موقع الكاتب السّلطانيّ من الأمير.