طَوالَ السنواتِ الخمس الأخيرة، حينما كانت السياسة الخارجية التركية تتبع استراتيجيات إقليمية و"دولية" غير تقليدية، لم تكن تشبه التوجهات العامة التي كانت تتميز بها تاريخيا، كانت ترسانة ضخمة من الوسائل والمؤسسات الإعلامية والدعائية المرتبطة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم تلهث جاهدة لشرح مقاصد تلك السياسة الخارجية وتوضيحها وترويجها، بكل نزعاتها الانتحارية.
كان ذلك الجهد الدعائي يتمركز حول مقولتين بسيطتين، تذهب الأولى إلى الإيحاء بأن السياسة الخارجية التركية الراهنة إنما تتقصد مزيدًا من الاستقلالية والحُرية عن الأقطاب والقوى العالمية. وبمستوى آخر خلقَ مزيد من القوة والنفوذ للدولة التركية.
تقليديا، كانت السياسة الخارجية التركية تتمركز على ثلاثة أسس رئيسية، منذ تأسيس الدولة التركية عام 1923 وحتى قبل سنوات قليلة. فقد كانت تركيا تعتمد إستراتيجيا على الولاء والتبعية السياسية والعسكرية للولايات المُتحدة، كمركز عالمي صارم قادر على حفظ مكانة تركيا ودورها في منطقة الشرق الأوسط. إلى جانب ذلك، كانت تركيا تعتمد اقتصاديا ورمزيّا على العلاقة الاستثنائية مع المنظومة الأوربية، لاسيما مع ألمانيا. المستوى الثالث ينشغل بتأمين مستويات من الضبط في مناطق النزاع القلقة، مثل القوقاز والبلقان وأواسط آسيا، وذلك بالتعاون مع القوى الغربية/حلف الناتو لما في ذلك من مصالح مشتركة.
تبدل كل ذلك تماما خلال السنوات الخمس الأخيرة. إذ صارت تركيا لا تأخذ علاقتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة في حساباتها ونزعاتها الهجومية، حتى في ملف محاربة الإرهاب نفسه، وفوق ذلك تدعم جماعات محلية وقوى إقليمية مناهضة للولايات المتحدة بوضوح. مع الاتحاد الأوربي تحولت تركيا إلى مثير أساسي للأمن القومي الأوربي، متوثب للهجوم العسكري على حدودها الجنوبية، وفاعل على تحريض المجتمعات الداخلية الأوربية على بعضها. إقليميا، تحولت تركيا من فاعل لضبط المناطق القلقة والمتأزمة، إلى مفتعل لتلك القلاقل والأزمات، التي صارت تختلق حروبا أبدية في كُل حدب.
كانت الأجهزة الدعائية الرديفة للرئيس أردوغان وحزبه الحاكم تصنف وتفسر هذا التبدل في السياسة الخارجية التركية على مستويين متراكبين، المذكورين سابقا، النزعة الاستقلالية ومحاولة كسب المزيد من القوة.
فتركيا حسب هذا المنظور صارت قادرة على التصرف على أساس المسافة الواحدة من جميع القوى العالمية، بين روسيا والولايات المتحدة، بين الصين والاتحاد الأوروبي، وأنها تستطيع باستقلاليتها تلك أن تستغل تناقضات تلك القوى العالمية.
كذلك كانت التفسيرات الدعائية تقول بأن مختلف القوى العالمية صارت تفقد قوتها الذاتية، الاقتصادية والاجتماعية وحتى العسكرية، في وقت تكسب فيه تركيا مزيدا من "القوة"، وهو ما قد يخولها التصرف كـ"قوة عالمية". كانت خطابات الرئيس التركي ومقولاته حول "العالم أكبر من خمسة"، تدل بوضوح حول طبيعة تلك النزعة.
لكن كل ذلك انهار خلال الشهرين الماضيين، إذ صار أردوغان والأجسام السياسية والدعائية الملحقة به يوحون بأن تركيا تميل لأن تعود للاندماج في المنظومة الأوربية، وأن تركيا مستعدة لتقديم مجموعة من التنازلات للولايات المتحدة، بما في ذلك إمكانية التخلي عن التعاون العسكري والسياسي مع روسيا.
أي أن تركيا عادت بسياستها الخارجية خلال شهرين فحسب إلى موقعها التقليدي الذي كان، وغادرت الموقع المُتخيل حول الاستقلالية وفائض القوة الذي كانت تدعيهما طوال السنوات الخمس الماضية.
كان ثمة شيء واحد تغير خلال الشهرين الماضيين، هو انتخاب رئيس أميركي حازم وواضح التوجه تجاه تركيا، لا يسمح لها إلا بشغل مساحات سياسية متطابقة مع حجمها وموقعها وقوتها الموضوعية، فعاد كل شيء إلى ما كان عليه.
بهذا المعنى، لم تكن نزعات تركيا وسلوكاتها الاستثنائية خلال السنوات الماضية نتيجة أي استقلالية أو فائض قوة كانت تختزنه، بل فقط مُجرد استغلال شعوبي من قِبل السلطة الحاكمة للطبيعة الاستثنائية للإدارة الأميركية المنتهية ولايتها، التي تركت لتركيا هامشا أكبر من حجمها، وفوق ذلك تقاسم أردوغان مع بوتين مزيدا من مناطق النفوذ، وهذه هي الحقيقة كلها.