من الولايات المتحدة الأميركية إلى الإمارات العربية المتحدة في قلب المنطقة، لطالما قدمت التجارب الاتحادية واللامركزية قصص النجاح والازدهار والتنمية والتطور.

لكن مع ذلك، مازالت الثقافة السياسية البالية في منطقتنا إلى حد كبير تعيش أوهام قداسة الوحدات الدمجية القسرية، والنظام المركزي الفاشل والمترهل، والطعن في نظم وآليات الحكم والإدارة التعددية اللامركزية تحت يافطات اتهامها بإضعاف الوحدات الوطنية والقومية وتكريس النزعات الانفصالية وتوهين الجبهات الداخلية وهكذا دواليك.

والواقع أن اللامركزية هي صيغة متطورة معتمدة في معظم دول العالم المتقدمة، وهي تضمن بداهة التقسيم العادل للسلطات والاختصاصات والموارد دونما تمركز، وبما يضمن تعدد وتنوع المقاربات والرؤى التنموية والنهضوية، وبما يخلق بيئة تنافسية وتكاملية في آن واحد بين مختلف الأقاليم والولايات والمقاطعات أو سمّها ما شئت.

الأمر الذي يسهم، وعلى عكس تلك الاتهامات، في تقوية التماسك الوطني والمجتمعي وتعزيز آفاقه على قاعدة صون التنوع والاعتداد به في إطار الاتحاد والتكامل.

فالنظام اللامركزي تعريفا نظام مرن ودينامي يعتمد لغة المصالح والحقوق لكل الأطراف المنضوية تحته والمتعاقدةِ وفقه دونما شططٍ أو تخشب، بل وَفقَ منطق المنفعة الملموسة التي يَجنيها الجميعُ والتي تترجم صوابَ وجدوى مردودية المبادئ والقواعد الحقوقية المؤسسة لهذا النوع من نظم التشارك بين قوميات مختلفة كما في سويسرا وبلجيكا مثلا  أو ولاياتٍ متنوعة تضم خليطا واسعا من الأقوام والأعراق والثقافات كما في أميركا التي هي تعريفا أمة مهاجرين أو حتى أقاليم وولايات متجانسة كما الحال في ألمانيا.

والحال أن اللامركزية التي تتعدد أشكالها ونماذجُها من الإدارات المحلية والحكم الذاتي إلى الفيدرالية وصولا إلى الكونفدرالية، تمثل وصفة حل عادلة وحضارية للقضايا القومية والإثنية المعقدة حول العالم وما أكثرها في ربوعنا، وتسهم بداهة في دمقرطة تلك البلدان التي لديها مشكلات داخلية عويصة وتاريخية تتصل بالتعدد القومي والديني والطائفي المجابه بسياسات الإنكار والصهر والقمع.

فمثلا، تشكل الصيغة اللامركزية على رحابة نماذجها حلا منطقيا وعادلا لواحدة من أعقد القضايا في الشرق الأوسط والعالم ككل وهي القضية الكردية إذ تقتسم أربعُ دولٍ (تركيا وإيران والعراق وسوريا ) كردستان. وربما لسوء طالع الشعب الكردي مثلت هذه البلدان أعتى الدول المركزية الاستبدادية في المنطقة مع ملاحظة أن العراق قد خرج من هذا التصنيف بعد سقوط النظام البعثي واعتماد الفدرالية في البلاد.

كما أن الصيغة اللامركزية تضمن الحكم الرشيد والشفافية وتقليص الروتين الإداري والتوزيع المنصف للمقدرات والمهام والصلاحيات بما يقطع دابر السلطويات المركزية ونزعاتها المدمرة حتى داخل البلدان المتجانسة.