أتى الدستور الفيدرالي للولايات المتحدة الأميركية، مُتبنيا مبدأ الوحدانية في السلطة التنفيذية، وهو المبدأ الأساسي الذي أفصَحت عنه صراحة المادة الثانية من الدستور الأميركي.
ووفقا للمبدأ المشار إليه، تَفرّد النظام الرئاسي الأميركي بجلاء عن غيره من الأنظمة الرئاسية الأخرى، إذ تتوحد السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة الأميركية، بل تندمج في عناصرها كافة، في شخص الرئيس، في حين أن هذه السلطة التنفيذية تتوزع في الأنظمة البرلمانية الأوروبية، بين رئيس الدولة، ملكا كان أو رئيس جمهورية، وبين الحكومة القائمة، ويمتد الأمر أيضا ليشمل الأنظمة الأوروبية الرئاسية مثل فرنسا، حيث يشارك رئيس الوزراء الفرنسي رئيس الجمهورية في ممارسة العديد من الصلاحيات والاختصاصات التنفيذية.
قَصَد الآباء الأوائل للدستور الأميركي أن يحقق سلطان الهيئة التنفيذية الشرط الجوهري للحكومة الناجحة، وأن العنصر الأول لضمان هذا السلطان هو في وحدته، وأن هذه السلطة الكبيرة التي يتمتع بها رئيس الولايات المتحدة الأميركية أدت إلى القول "بأن الأميركيين إنما يختارون لأنفسهم، كل أربع سنوات، مَلكا لا يختلف عن كل الملوك".
وفي الأعمال التي لا تتصل بإحدى صلاحيات الكونغرس والمحكمة العليا، يتمتع الرئيس الأميركي بسلطان لا ينازعه عليه أحد، فيتحمل وحدة مسؤولية الأمة أمام التاريخ، وهي حالة من السلطان قد دفعت الرئيس الأميركي ويلسون إلى القول: "إن للرئيس الحرية، تجاه القانون والضمير، أن يكون قائدا كبيرا بقدر ما يشاء".
تتميز السلطة التنفيذية في النظام الرئاسي الأميركي بـ"أحادية الرأس"، إذ تنحصر صلاحياتها بشخص رئيس الجمهورية الذي يُنتخب على مرحلتين: الأولى من قبل الشعب الأميركي، والثانية من قبل الناخبين الرئاسيين الذين ينتخبون الرئيس بدورهم في المرحلة الثانية، وتتمركز السلطة التنفيذية بيد الرئيس لعدم وجود ثنائية في السلطة التنفيذية، بيد أن المهام الواسعة الملقاة على عاتق الرئيس، تحتم عليه الاستعانة بعدد كبير من المستشارين والمعاونين، فيجعل من مجموعهم، ليس وزارة بالمعنى الأوروبي، وإنما غرفة حكومية Cabinet ، بقيادته، إذ أنهم جميعا خاضعون له ، فيأتمرون بمشيئته ويتحملون إذن مسؤولياتهم تجاهه، من دون أي سلطة أخرى.
واقع الأمر، لقد كَفلت السلطات الواسعة الصريحة غير المحدودة للرئيس الأمريكي في المادة الثانية من الدستور مجالاً واسعاً للمبادرات الرئاسية، ورسّخ الواقع العملي في الممارسات التشريعية للرئيس الأميركي، خاصة في المجال الخارجي.
يُشرف الرئيس الأميركي على دقة تطبيق القوانين ويُعَيّن جميع المناصب في الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه المناصب العليا "الوزراء ورؤساء الإدارات"، وأيضا أعضاء المحكمة العليا يتم تعيينهم من قبل الرئيس مع "مشورة وموافقة مجلس الشيوخ"، مما يعني أن الأشخاص المُعيّنين يجب أن يوافق عليهم مجلس الشيوخ، وللرئيس الحق في العفو ووقف تنفيذ العقوبات في الجرائم المرتكبة ضد الولايات المتحدة "باستثناء القضايا المتعلقة بالإقالة بقرار قضائي".
يملك الرئيس الأميركي صلاحيات غير محدودة عمليا في المجال الحربي، حيث يمكنه أن يعطي أمرا للقوات المسلحة ببدء عمليات عسكرية على أراضي الدول الأخرى من دون إعلان حالة الحرب، ومثل هذه العمليات يمكن أن تُجرى في غضون 60 يوما، وعند الضرورة يمكن زيادة هذه المهلة 30 يوما آخر، ويجب على الرئيس فقط تقديم تقرير بهذا الخصوص إلى الكونغرس، وبقرار من الرئيس تفرض حالة الطوارئ في البلاد ويتم الإعلان عن التعبئة.
يرتكز دستور الولايات المتحدة على مبدأ فصل السلطات، فلا يستطيع الكونغرس أن يرغم الرئيس على الاستقالة، ولا يستطيع الرئيس حل الكونغرس، ولكن لا يُمكن الزعم بالانعزال المطلق لهذين الجهازين، فالفصل بين السلطات في الولايات المتحدة له حدود: فالرئيس والكونغرس يملكان بعض وسائل التأثير المتبادلة، ففضلا عن الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس الأميركي، والتي أشرتُ إليها سالفا، كفل الدستور الأميركي للرئيس حق الفيتو على مشروعات القوانين الصادرة عن الكونغرس، حيث إن القانون لا يصبح نافذا إلا إذا صدّق الرئيس عليه، فإذا صدّق عليه، يتحول عمل الكونغرس Act إلى قانون law or statute، رغم أنه يبقى باسمه الأصلي Act ، وإذا رفض الرئيس الأميركي التصديق عليه، فإنه يعيده إلى الكونغرس مع بيان أسباب معارضته لهذا القانون.
وفي هذه الحالة، يتعين على المجلس، الذي يكون قد أعاد إليه الرئيس هذه القانون -وهو المجلس الذي صوت عليه في مرحلته الأخيرة– أن يُدَون كامل أسباب معارضته في محضر جلسته، ولا يحق له عندئذ أن يعيد التصويت فيه، إلا بأغلبية ثلثي أصوات أعضائه الحاضرين، فيحيله بعد ذلك إلى المجلس الآخر، لكي يصوت عليه أيضا، بأغلبية أصوات أعضائه الحاضرين، وإذا تحقق هذان الشرطان، لم يعد للرئيس مناص من التصديق على إصداره ونشره، وإلا يُعتبر القانون قد صدر نهائيا.
كما سبق بيانه، نادرا ما يحاول الكونغرس الأميركي أن يَتمرد على اعتراض Veto الرئيس، فقد استخدم رؤساء الولايات المتحدة الأميركية حتى الآن 2582 فيتو تجاه التشريعات التي أصدرها الكونغرس الأميركي، وفي المقابل كان التخطي الأخير من جانب الكونغرس للفيتو الرئاسي هو الحادي عشر بعد المائة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، والوحيد تجاه الرئيس دونالد ترامب.
تجدر الإشارة أيضا إلى أن الرئيس لا يحق له أن يستخدم الفيتو إلا في عشرة أيام بالتقويم الميلادي من وصول القانون إليه، وهي المدة التي حددها الدستور، مع عدم احتساب أيام الأحد التي قد تتخلل هذه المدة، حتى إذا مرت هذه المهلة ولم يصدق الرئيس عليه، اعتبر القانون نافذا نهائيا، فامتناع الرئيس عن الرد أو إعادة مشروع القانون موقعا عليه، أو مرفقة به أوجه اعتراضاته ضمن المدة الزمنية المحددة وفقا للدستور، مع تمكنه من ذلك، يُعد قرينة قانونية قاطعة على موافقته الضمنية على قرار الكونغرس.
وتختلف الصور التي يمارس من خلالها الرئيس الأميركي سلطته في الاعتراض على مشروعات القوانين التي وافق عليها الكونغرس، فقد يستخدم الرئيس الأميركي، الاعتراض الصريح أو النظام Regular Veto، ويستخدم ذلك النوع من الاعتراض للإشارة إلى تصرف الرئيس عندما يرفض الموافقة على مشروع القانون المشترك الذي أقره مجلسا الكونغرس، وهنا لا يترتب على الاعتراض الصريح للرئيس القضاءُ نهائيا على مشروع القانون، ولكن يعاد النظر فيه ثانية من مجلسي الكونغرس، وتقرير مصيره في النهاية.
وفي هذا السياق، يعد الرئيس الأميركي (كليفلاند) من أكثر الرؤساء استخداما لحق الاعتراض حتى أطلق عليه "الرئيس فيتو"، فقد استخدم الفيتو الرئاسي 635 مرة.
أما النوع الثاني من أشكال الفيتو التي يستخدمها رئيس الولايات المتحدة الأميركية، فهو الاعتراض المستتر أو اعتراض الجيب Veto Pocket، حين يقوم الكونغرس بتقديم مشروع قانون ما بعد الموافقة عليه من قبل مجلسيه إلى رئيس الجمهورية في المدة المحددة، وفي الوقت نفسه لم يوافق عليه خلال المدة المتبقية من دور الانعقاد، فإنه في هذه الحالة لا يتحول مشروع القانون إلى قانون، وذلك على الرغم من عدم قيام الرئيس بإرسال اعتراضاته عليه إلى الكونغرس.
درج الكثير من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية على عدم أخذ مشروعات القوانين المقترحة من الكونغرس مأخذ الجد، وذلك نظرا للكم الهائل من عدد هذه المشروعات، ويتحرج الرئيس من الموافقة على معظمها، ويتذرع بالصمت، ويترك القانون نائما في جيبه، ولعل ذلك يعد أحد الأسباب الرئيسية لتسمية ذلك الاعتراض بـ"اعتراض الجيب".
هذا النوع من الاعتراض يؤدي إلى قتل مشروع القانون، والقضاء عليه نهائيا، وليس أمام الكونغرس من سبيل للخروج من هذه المشكلة سوى إعادة صياغة مشروع قانون مشابه للذي تم الاعتراض عليه، وتقديمه للرئيس للحصول على موافقته، وسيمر المشروع الجديد بذات المراحل التي مر بها سابقه وهو ما يعني تجدد النزاع والتحدي بين الجانبين.
أقَر الكونغرس الأميركي في نهاية المطاف، قانون تفويض الدفاع الوطني، الذي درج الكونغرس على إقراره سنويا منذ 59 عاما على التوالي، فبعد تخطي الكونغرس أمس الفيتو الرئاسي يكون قد أقر ذلك القانون ولمدة ستين عاما على التوالي، وبَرّر العديد من المشرعين الأميركيين إصدار القانون باعتباره فرصة هائلة لتوجيه أولويات الأمن القومي للولايات المتحدة، فضلا عن أن القانون يعكس تصميم الشعب الأميركي لصيانة أمن بلاده، في الداخل والخارج، وباعتبار أن القانون يعلي من مكانة العسكريين الأميركيين في المقام الأول، ومواكبة المنافسين مثل روسيا والصين.
استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال أربع سنوات حق النقض تسع مرات ضد مشاريع القوانين التي تم تمريرها في المجلسين، ولم ينجح الكونغرس قط في تحقيق أغلبية الثلثين اللازمة لتجاوز نقض الرئيس، لكن وقعت الواقعة، الجمعة، حين تَبنى مجلس الشيوخ خلال جلسة استثنائية قانون تفويض الدفاع، فانضم غالبية المشرعين المنتخبين الجمهوريين إلى الديمقراطيين، وتحدوا زعيمهم في نهاية فترة ولايته، وهو الذي كان دائمًا يفتخر بدعمهم.
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس دونالد ترامب كان قد وَصف القانون المؤَلف من 4500 صفحة، بأنه "هدية للصين وروسيا"، وقال في بيان: "لسوء الحظ، فشل القانون في تضمين تدابير الأمن القومي الحاسمة، ويتضمن أحكاما لا تحترم قدامى المحاربين وتاريخ جيشنا، ويتعارض مع الجهود التي تبذلها إدارتي لوضع أميركا في المرتبة الأولى في إجراءاتنا المتعلقة بالأمن القومي والسياسة الخارجية، وإن إجراءات مشروع القانون للحد من إعادة القوات الأميركية إلى الوطن كانت سياسة غير رشيدة وغير دستورية.
صفوة القول، تَجرّد المُشرعون الأميركيون من أي حزبيةٍ مقيتةٍ قد تُحيق بالمصالح العليا للشعب الأمريكي، وغَلّبوا مقتضيات الأمن القومي الأميركي على أي منافسات حزبية ضيقة، واتسعت بصيرتهم لتُدرك أن الميدان واسع، وأن ذل الرئيس ساطع وأن قانونهم هو القاطع المانع.