في عام 2010، وخلال الاجتماع السنوي لأيباك، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، ومرشحة الرئاسة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، ومن موقع الصداقة الأميركية الإسرائيلية أنْه لا طريق نحو السلام الشامل في منطقة الشرق الأوسط سوى طريق "التنازلات المؤلمة".
ذلك أن إمكانية تحقيق النصر البيِّن عبر الحروب الخاطفة قد أصبح من المستحيل، بسبب تطور وتعقد أنماط الحروب، في ظل ما اعتبرته حينها كلينتون عصرا للصواريخ الشعبية، والتي بسبب امتلاك الفصائل الفلسطينية للكثير منها أصبحت إسرائيل تدفع أكلافا سياسية من قبيل ما كان قد تضمنه تقرير غولدستون الشهير، الصادر قبل ذلك التاريخ بأشهر.
إذن لم يعد للحرب أي وظيفة شبيهة بما كانت تؤديه في السابق، حينما كانت هي الوسيلة الوحيدة التي يلجأ إليها المتنازعون، ليس للاستمرار فيها إلى الأبد، وإنما لإزاحة الانسداد السياسي وتحسين مواقع التفاوض، وأصبحت والحال هذه مجرد تراجيديا لا طائل من ورائها، فيما تعمل كل من تغيرات الديموغرافيا على تكريس ذلك الواقع، لاسيما وأن وضع الانسداد ذاك أو الحرب العبثية سيجدان لهما خزانا بشريا غير قابل للنضوب، تغذيه الإيديولوجيا الانعزالية الموروثة عن منطق خارج العصر، كل همه إبقاء الوضع على ما هو عليه وتجميد التاريخ في المنطقة إلى إشعار آخر.
غير أنه لم يمض سوى عقد من الزمان، حتى بات للميزان إياه معانٍ أخرى، فها هو العالم يودع السنة الحالية وأفضل ما شهدته هو فتح كوة للسلام العربي الإسرائيلي في جدار التكلس والانسداد، ومع كل محطة منذ أن خطت الإمارات العربية المتحدة أولى الخطوات الجريئة في هذا الصدد إلى خطوة المغرب، وصخب الرأي المعارض يخفت رويدا رويدا، إذ لم يعد له من بيئة حاضنة في الحيز الثقافي والاجتماعي العربي، بقدر ما نما الشعور أكثر خلال العقدين الماضيين بمنطق الدولة الوطنية، وضرورة تخلصها من ثقل إيديولوجيا القومية العربية ومشروع الإسلام السياسي، وأيضا بسبب الفصل الذي بات قائما بين الدفاع الثابت عن حقوق الشعب الفلسطيني، وبين إقامة العلاقات مع إسرائيل.
ولعل القناعة التي باتت راسخة اليوم في عصر الانفتاح والاتصال، تمكن في أن الاتصال السياسي والدبلوماسي والاقتصادي العربي الإسرائيلي، قد يكون فرصة لفض النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وتمكين الفلسطينيين من حقوقهم، أكثر من الارتكان إلى آلية قطع العلاقات مع إسرائيل التي جرى تجريبها لعقود طويلة، ولم تنتج أكثر من تعميق المشكل، وتجميد الحلول، وتباعد وجهات النظر.
فيما تنتعش خطابات التعويم والتسطيح المنبعثة من طهران وأنقرة والدوحة، والتي تجد صداها في غزة تارة، وفي جنوب لبنان تارة أخرى، وعلى شاشات التلفزيونات ومساحات تعليب الرأي العام العربي.
وواقع الأمر أن كل هذه الأطراف التي تراهن على خطاب قطع العلاقات مع إسرائيل، وإن كانت هي تقيم معها علاقات بصورة ما، وتنعت كل من قام بأي اتصال بالإسرائيليين بالخيانة و"التطبيع" وما شابه، هو أن كل أولئك هم في الحقيقة يعتبرون إسرائيل دولة تتمتع بوجود طبيعي في النظام الدولي.
على سبيل المثال حزب الله اللبناني يبرر سلاحه ونشاطاته حيال خلافاته مع أخصامه اللبنانيين، بكونه يمثل مقاومة شعبية مشروعة مادامت إسرائيل تحتل أراض لبنانية، ومادام الجيش اللبناني لا يمتلك قدرات تسليحية تمكنه من تولي الأمر، وبالتالي فإنه سيكون محرجا للغاية إذا زال الاحتلال الإسرائيلي لتلك الأراضي، ونفس الشيء بالنسبة لسوريا وإيران راعيتا ما يعرف بمحور "الممانعة"، فضلا عن كون كل الشد والجذب بين حماس والسلطة الفلسطينية التي تقودها فتح منذ أسلو، لا ينفي أن الحركة ذات الأصل الإخواني بدورها ليست خارج منطق حل الدولتين، سواء باعتبار التحولات التي شهدتها وصولا إلى وثيقة مبادئها المعدلة والمعلنة سنة 2017، أو باعتبار سقف راعيتيها قطر وتركيا اللتان تتبنيان بدورهما حل الدولتين، فضلا عن الجزائر، التي ومهما تحدثت عن القطيعة فهي بدورها تتبنى حل الدولتين.
إذن كل الأطراف تتبنى حل الدولتين، وهذا يعني ضمنيا ومبدئيا اعترافا بدولة إسرائيل كدولة تتمتع بوجود طبيعي في المجموعة الدولية، فلماذا إذن كل هذا الصخب حول الاستيهام المسمى "تطبيعا"؟، والحال أن كل المواقف الرافضة لفتح قنوات الاتصال المباشرة أو غير المباشرة مع إسرائيل هي موروثة فقط عن التأثير الإيديولوجي السلبي للقومية العربية ووريثتها الإسلاموية، وإلا فإن الواقعية تقتضي بدل قطع الاتصال مع إسرائيل، المضي صوب تكثيف الاتصال معها، عسى أن يكون في ذلك فائدة للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في أفق تأسيس دولة فلسطينية ذات سيادة واعتراف دولي يليق بشعبها وبتطلعاته نحو الأمن والسلم والاستقرار والتنمية، وطمر هذا النزاع الذي عمر طويلا.
خلاصة القول أنه في عالم الدبلوماسية الكثير من الفرص التي تتيح تحقيق المكاسب، وذلك على نحو أيسر وأفضل مما تتيحه الحروب العسكرية، ففيما سيمنح السلام فرصة تطبيق حل الدولتين، بما يقضي على بواقي الإيديولوجيا في إسرائيل وفلسطين، ستفتح ديناميات الديموغرافيا والتثاقف الفرص أمام المزيد من الدمج البشري، بقدر ما لا تعرف حركة التاريخ لحظة واحدة من التوقف عن الإبداع في أشكال وأنماط الوقائع الاجتماعية والسياسية الأكثر إبداعا، فمن يدري ما الذين ستكونه دول المنطقة والعلاقات بينها مستقبلا، والمخاطر الداهمة التي تهدد الجميع باتت آتية من الطبيعة ومفرداتها، ولم تعد صراعات إيديولوجيات العصور البائدة سوى نكات سمجة.