يقال إن النجاح في الحياة رهين العمل، أمّا المكافأة على العمل فرهينة الحظّ. والحظّ، كما تعلّمنا، عبقريٌّ في تسويق حجّته عادةً، كأنّ يحتال لكي يبطل مفعول النصّ في معادلة الجوائز الأدبيّة، لأن التجربة برهنت كيف كان هذا النصّ دوماً ضحيّة في أيّة مباراة تخضع للمنافسة.

الحظّ يخلع اسم العوامل المساعدة في اغتنام الجائزة لتشمل: العلاقة، واللغة، والترجمة، والهوية، والانتماء الأيديولوجي، والقناعة السياسة، وحتى السنّ. وهي عناصر جديرة بأن تحوّل المسألة إلى ضرب من لعبة، أو عرض مسرحي، يمارس فيه الهواة مواهبهم في الحطّ من قدر القيمة، لإشباع الظمأ الكلاسيكي إلى الاستهتار بالحقيقة، التي كنّا سنشك في حقيقتها، لو لم تكن ضحيّة الأزمنة.

لقد اخترع العالم منذ القدم بدعة المحفل باسم اللجنة، لتكون حَكَمَاً لتقييم نشاطٍ إنسانيٍّ مقدّس هو العمل، ليكون حافزاً للجود بالمزيد. ولكنه تحكيمٌ لم ينجُ من انحطاط الطبيعة الإنسانية منذ البدء، استجابة لنداء أهواء هي نقطة ضعف الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان.

ومن الطبيعي أن نحابي في الاختيار أولئك الذين ربطتنا بهم صلات قربى، أو علاقة صداقة، أو شراكة في اللغة، أو الانتماء إلى الهوية، أو المعتقد الديني، أو التعاطف مع كل من بلغ من العمر عتيّاً، لأن الأخير هو الأحقّ دوماً بأوسمة الإكبار، لأن الواجب يقضي بأن نخصّه قبل سواه بمراسم هي، بمنطق الأشياء، بمثابة شعائر تأبين!

وهو ما يعني اغتراب الحقيقة في نشاط محافل التحكيم هذه، التي لا تلبث أن تتحوّل سلطة مع مرور الزمن، بسبب هالة القدسية التي تكسبها بالصيت، الناجم عن إيهام العالم بامتلاكها لحقيقة عصيّة امتنعت عن بقيّة القطيع الذي يسعى في حضيض العالم ليثقل كاهل العالم.

هذه الهالة التي أحسن كهنة المحفل حبك أحابيلها لا تلبث أن تهب التحكيم خصالاً غيبيّة، بحيث يغدو الفوز بمكافأتها جنساً من تزكية ذات صفة ألوهيّة، جديرة بأن تصير في نظر العوام حلماً بعيد المنال، من شأنه أن يضاعف من صلاحياتها "اللا أرضيّة"، لتستعير الهبة أبعاداً قدسيّة، محفل التحكيم فيه يحتل مرتبة المعبود، الذي يحلم الكلّ بكسب رضاه، كما يليق بكل معبود.

هذه العقلية هي ما زوّر القيمة في فلسفة المكافأة، ليزيّف مع الزمن الهويّة الأصليّة التي كانت علّة ابتداعها، لتكون حافزاً للتفوّق على الوهن الإنساني، بعمل المستحيل للجود بالمزيد، كما تتغنّى محافل التحكيم في أدبياتها عادةً. فهل مازلنا نطمع في إنصاف النزاهة، لاستحضارها في واقعٍ لم تعد فيه القرابين تُنحَر لوجه الله، ولكن لاسترضاء شبح الباطل الذي يسفّه الحقيقة، مقابل الانتصار للمخطّط الذي يعتنق المحاباة ديناً؟

من الطبيعي أن يتوارى الإبداع من دنيا المحفل خجلاً، وهو المنزّه بطبيعته عن كل ما متّ بصلة للغنيمة الأرضيّة. وإذا كانت الجوائز وثائق اعتراف في حقّ أيّ عملٍ إبداعيّ، فإن الإبداع هو ما لم يعترف يوماً بوجود اعتراف، لسببٍ بسيط، وهو سجيّته "الرسالية"، المترفّعة عن عطايا دنس الوجود، الذي لا يتنزّل بدون نوايا خفيّة، مترجمة في صيغة مؤامرة، كي تنفي فيه هذه الروح "الرسالية"، المثيلة لشعيرة دينية، هي الصلاة، لأنها وحدها مكافأته الحقيقية، ووحدها سفيره إلى الخلود.

فما هو موقفنا نحن، انطلاقاً من موقع واقعنا، السابح، بحكم العادة، في فلكٍ خارج المفاهيم التي يعتنقها العالم، من هذه الظاهرة التي اعتمدتها الأمم، كامتنان مقدّم لأناسٍ اصطفتهم الطبيعة، عندما ألهمتهم إبداعاً من دون الناس جميعاً، فأبت الأمم إلاّ أن تنافس الطبيعة في جودها الإلهيّ، فتمنّ عليهم بهباتها الأرضيّة، مشفوعةً باسمٍ مهيب هو: الجائزة؟!

إذا كان العالم لم يتردّد في أن يسفّه مبدأ الاستحقاق في عطاياه، ليسفّه القيمة نتيجةً لذلك، فإننا لم نتردّد، بنزعتنا العدميّة، في أن نسفّه مبدأ العطاء نفسه، عندما قمنا، في محافلنا، بسنّ التقليد المعيب الذي يقضي بوجوب التنازل عن آخر ذرّة حياء، والتقدّم بطلب للحصول على الجائزة، تماماً كما يتقدّم العاطلون عن العمل في أوروبّا بتحرير طلب للحصول على عونٍ كي لا يلفظوا الأنفاس جوعاً!

كانت هذه البدعة في واقعنا الثقافي آخر مزحة شريرة، من طراز السخرية السوداء، تفتّقت عنها عبقريّة القائمين على ذخيرتنا الثقافية الشقيّة، ليبرهنوا بها على موقفهم من مبدعٍ لم يروا فيه يوماً سوى شبح بائس لن يضيره أن يقرع أبواب المؤسسات القائمة كي يتسوّل قوتاً يبقيه قيد الوجود!

وهكذا صار عنوان الفوز بالجوائز الأدبية في عالمنا حجّةً لاستنزال الذلّ في حقّ المريد، والإصرار على إلحاق الإهانة بشخصه، بهدف الحطّ من شأن نصّه، بل والحطّ من قدر الأدب، لا في مدلوله الإبداعي وحسب، ولكن في مفهومه الأخلاقي أيضاً.

فهل يُجدي أن نذكّر هؤلاء الحواة، الذين نصّبتهم أنظمتنا أرباباً على حياتنا الثقافية بأن اشتراط التقدّم للحصول على الجوائز الأدبية لا يمتّ بصلة لمفهوم هذه الجوائز، ولكنه ينفي فيها لا قيمتها وحسب، بل يُلغي فيها طبيعتها كامتنانٍ لم يوجد بشطحة هوى، ولكنه نتج عن تجربة نزيف، جاد فيها صاحب الشأن بالروح، كي يهبنا الحقيقة مجسّدةً في طلعة جمال، وهي تتغنَّى شعراً، لتبشّرنا بأننا لا نحيا في هذه الدنيا عبثاً، ما دمنا نستطيع أن نتحدّى فنحيا أحراراً.

أمّا المِنَح البائسة، التي يدعونا حواة المحافل لأن نتقدَّم لنيلها من أيديهم الملوّثة، فهي الشهادة التي تليق بمنتسبي المسابقات الأدبية في المدارس الابتدائية، وهي البرهان على الموقف المهين والمبيّت من الإبداع كمبدأ يعتنق دين حريةٍ تراهن على خلاص العالم، لتغدو الوثيقة التي تدين هؤلاء الهواة، فتجلّلهم بالعار، الذي شاءوا بعبثهم أن يلحقوه بالفئة التي أبت إلاّ أن تجلّل، بعملها، أوطانهم بأكاليل الغار!

فالجائزة، أيّة جائزة، بمنطق العدالة، قطبان يقوّمانها في بُعدين، بحيث تغدو جائزتين، أو، إذا شئنا الاحتكام إلى لغة النفع، غنيمتين: غنيمة مسكونة بروح قداسة، بما أنها هوية امتنان يُطرح قرباناً لوجه الله الذي اصطفى هذا المبدع، دون سواه، فخصّه بالموهبة لكي يقول كلمة صدق في حقّ وجودٍ، هو أحجية يأبى الثراء فيها إلاّ أن يبقى رهين التوق إلى تأويل. هذا، في حين يتطلّع القطب الثاني، الدنيوي، المسكون بالحرف الذي يُميت، إلى الاستهانة بناموس الاستحقاق، عندما يجود بأوسمته على مبدع، استجابةً لنداء الانتماءات الجائرة، من أيديولوجيّة، أو سياسيّة، أو عرقيّة، ليستهتر بأبجديّات المبادئ الأخلاقيّة، فلا يكتفي بإهانة القيمة بهذا الانحياز، ولكنّه يجدّف في حقّ الحقيقة التي يلقّنها لنا درس نصٍّ، اغترب عن رسالة الإبداع، ليغترب بذلك عن حقّ الانتماء إلى جناب الاستحقاق، باغترابه عن الحقيقة التي أوجدت قياس الاستحقاق.

وأحسب أن رهان الاستحقاق هو ما غاب عن عقلية محافل اللجّان التي نصّبها العالم لتتولّى استنزال مثل هذه الشهادات المسمّاة في لغتنا جوائز؛ وكم كانت هذه المحافل ستنصف نفسها، قبل أن تنصف الحقيقة، فيما لو أدركت أن منح منحتها، عن استحقاق، هو شرفٌ تخلعه في حقّ نفسها، بل ووسام تعلّقه على صدرها، قبل أن يكون تشريفاً من نصيب مَن نال عطيّتها، أو وساماً تصدّر طلعة مَن أُجيز بمشيئتها.
فالحقيقة دوماً هي القياس.

وبصيغة أخرى: هل الانتصار للعدالة، أو التغنّي بالجمال، أو الذهاب لتلاوة الصلاة في محراب الحرية، أو، أخيراً، اعتناق دين القربان في سبيل إعلاء رايات الحقيقة، كما هي ذخيرة أيّ إبداعٍ حقيقي، يمكن أن نرجو من وراء هذا النزيف مكافأة، لا أعرف لماذا أبحنا لأنفسنا بأن نخلع عليها لقب الجائزة، كأنّ الاسم ليس استعارة من فعل "يجيز"، أي يسمح بتمرير، الدال على مفهوم جسيم هو الاعتراف؟

فهل يجوز أن يتولّى فعل الإجازة، أي الحكم بالاعتراف، في حقّ إبداع هو هبة إلهام ربوبيّ، صاحب فرجة، يتلقّى الكنز بالمجّان، ليستعير صلاحيات تسويقه لسواد الظامئين إلى الحقيقة، ليس هذا وحسب، ولكن هذا النموذج العاطل عن العمل، وعن الصلاة، يعطي لنفسه الحقّ في أن يستنزل سيوف القصاص في حقّ الهبة، فيحجبها عن الواقع بشطحة مزاج، ليستودعها غياهب منافٍ هي سجون؟

فإذا آمنّا بهوية الإبداع كشهادة على تضحية أُهِلّ بها لوجه الله، ألا تصير تزكيتها من قبل نموذج يسكن بُعداً خارج حرم المعبد، ضرباً من إهانة للهبة وللمريد الذي استنزل الهبة، مهما تفنّن في استقدام النعوت لترويج سلعة هي شَرَكٌ، مهما تنكّرت في صيغة مكافأة؟

ثم لماذا لا نتأمّل حقيقة المكافأة؟

إذا كانت المكافأة شهادة على امتنان؟

فهي الامتنان على ماذا؟

هل هي امتنانٌ جزاء إحسان، أم هي امتنانٌ على قدس أقداس هو أداء واجب؟

أيعقل أن نعترف بامتنانٍ هو عملة لشراء قيمة لا تقدّر بثمن، كما أداء الواجب، فنسفّه فيها الفحوى بخلع عطيّة في حقّها؟

ألم نعتد أن نحمَرّ خجلاً كلّما تلقّينا امتناناً لقاء إحسان منذور أصلاً لوجه الله، بحيث يغدو الامتنان جنساً من صفقة نفعيّة، منكرة في منطق القربان؟ أوَ ليس الإحسان في الأصل سدادٌ لدَيْن، وليس استجداءً لدَيْن، مبرم بموجب عهد، ممّا يجرّد الإحسان من ماهيّته ويستنزل فيه روح تجديف في حقّ تلك الحقيقة، المسكونة بتلك الغنيمة، التي إذا عرفناها في الصباح، ففي المساء نستطيع أن نموت، كما يحرّض الحكيم، لأن مجرّد حضورها، في الواقع، هو شهادة على اغتراب أيّة غنيمة دنيويّة؟

فالخليقة لم تخطيء عندما اعتمدت شرع النكران، في حقّ إحسانٍ، لم يكن إحساناً في عرف المعبود، ولكنه، بما هو أداءٌ لواجب، مجرّد سدادٍ لدين.

فما اعتدنا أن نسمّيه جوائز، واعتمدناه كشهادة براءة في حقّ قدس أقداسٍ هو الإبداع، إنّما هو، بمنطق الوجود، تجديفٌ في حقّ الحقيقة، لأننا لن نعدم أن نكتشف في حال أخضعنا المسألة لاستجواب، كم هي كلمة زور هذه الشهادة، مهما تشدّقت بالبراءة، لأن الإبداع هو القطب المخوّل بالحُكم، كلمته وحده منزّهة عن باطل الأباطيل، بسبب طبيعتها كتنزيلٍ مشفوعٍ، بمشيئةٍ مسكونةٍ، بروح البُعد المفقود.