لم يفرض انتشار وباء كوفيد-19 على دول القارة الإفريقية أن تعقد مؤتمرها الاقتصادي لهذه السنة عن بعد وحسب، بل فرض عليها أن تجعل أفق التفكير الاقتصادي يذهب صوب ما بعد الوباء، وما يستدعيه ذلك من إسراع نحو تحقيق التنمية المستدامة الشاملة، بحسب ما هو واضح من جدول أعمال المؤتمر، وكذا من نشاطات يومه الأول.

فالقارة السمراء تواجه هذا الوباء مثلها مثل غيرها من دول العالم، مع فارق أن آثاره تتفاوت من بلد إلى آخر، في حين تأخذ دول إفريقيا جنوب الصحراء حصة الأسد من الآثار الأكثر سوءا.

لقد حط الوباء على القارة الإفريقية ومعظم دولها تنوء تحت نير الصراعات العرقية والنزاعات المسلحة، وما تسبب فيه ذلك من إضعاف للدولة وأجهزتها الأمنية وقدرتها على إنفاذ القانون، وهي العوامل جميعها التي كرست نموذج الدولة الفاشلة في إفريقيا، أو ما يصطلح عليه في بعض الأدبيات الغربية بـ"سياسة ملء البطون"، في الإشارة إلى اقتسام الثروات على طريقة العصابات، وما يرتبط بذلك من ديمومة القلاقل والانقلابات والتطاحنات القبلية والعرقية.

وتبعا لهذا الواقع، وجدت مختلف مظاهر الفساد وانعدام الأمن بيئة مناسبة لها في إفريقيا، وزاد الطينة بلة ذيوعُ الإرهاب خصوصا في منطقة الساحل والصحراء، وتفشي مختلف أشكال الهجرة السرية والاتجار بالبشر، علاوة على غسيل الأموال والتهريب وتجارة المخدرات. فالقارة إذن كانت تتوفر على جميع عوامل الانفجار، ولم تكن محتاجة حتى لوباء كورونا لكي تقف أمام شبح مجاعة حقيقي، لأنها مثخنة أيضا ومنذ زمن بجراح الأمراض والأوبئة، في ظل منظومات صحية ضعيفة ومأزومة. غير أن الجانب المظلم في المسألة يكمن في المفارقة الناجمة عن استطالة المخاطر الأمنية والإرهابية موازاة مع تنامي انتشار فيروس كورونا، إضافة إلى شبح المجاعة الذي يطل برأسه، لتكتمل دورة المخاطر الإستراتيجية المحدقة بالعديد من دول القارة.

فالمجاميع الإرهابية وجدت في انشغال المؤسسات الأمنية والإدارية والجيوش بفرض تدابير الحجر الصحي وما تلاه، تحسبا ومنعا لانتشار الفيروس المستجد، فرصة لتوسيع نشاطاتها، مستعينة في ذلك بثقافتها الدموية التي تستمر في الموت وتشجع على عدم وقف "الجهاد" لأي اعتبار، إضافة إلى كون المجموعات الإرهابية هي في الأصل تعيش حالة عزلة بشرية عن المجتمعات حيث ينتشر الفيروس، وهو ما جعل الخطر الأمني يقف على التوازي مع خطر تفشي الوباء. تُضاف إلى ذلك هشاشة مستويات التنمية والترهل الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والمجاعات القائمة والمحتملة، بقدر ما تؤثر تلك الظروف مجتمعة على وتيرة الإنتاج الزراعي وأنماطه، برغم المفارقة الصارخة الكامنة في امتلاك دول إفريقيا لأجود أنواع التربة وقطعان الحيوانات وأفضل المراعي.

هكذا يبدو إذن أن مهام المجموعة الدولية والدول الإفريقية الملتئمة في المؤتمر الاقتصادي، إنما تكمن في التشخيص الدقيق للمخاطر والوقائع، وذلك بهدف الرقي بمستويات التعاون الإفريقي الإفريقي نحو مستويات متقدمة، بما يعنيه ذلك من فصل للملفات السياسية والنزاعات الحدودية عن ضرورات التصدي للإرهاب والأوبئة والمجاعات، ففي ذلك فرص كثيرة أمام تبادل الخبرات خصوصا مع دول شمال القارة وجنوبها وشرقها، لاسيما ومنها دول مثلُ المغرب ومصر وجنوب إفريقيا باتت تتوفر على عناصر الريادة بفضل سياساتها المميزة، وهو ما قد يفتح الباب أمام التعاون العربي الإفريقي بقوة.

لا يمكن إذن تأجيل البحث التنموي لدى الخروج بالقارة من أزماتها التي زادتها حدة موجة انتشار الوباء العالمي المستجد، بل ينبغي أن يترافق الموضوع التنموي مع الموضوع الأمني، باعتبار الموقع الجوهري للأمن ضمن التنمية السياسية، ومثيله الذي يحظى به الغذاء والدخل والصحة ضمن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما لا تنفع معه المقايضة، على حد تعبير بنيامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، حينما قال إن "من يقايض الحرية بالأمن لا يستحق أيا منهما". فالظرفية قد تحتاج قدرا من الإبداع للإجابة عن جميع التساؤلات دون ترك فراغات إستراتيجية، من شأنها أن تغذي المخاطر التي لا تحدق بإفريقيا لوحدها، وإنما بكل بقاع الأرض، باعتبار أن الأمن والسلم الدوليين لا ينفصل الواحدُ منهما عن الآخر.

تقف القارة الإفريقية اليوم أمام تحديات جمة، لكنها بوسعها أن تحولها إلى فرص، لاسيما أن الشركاء الاقتصاديين الدوليين باتوا متنوعين بالشكل الكافي لتثوير جميع إمكانات القارة،  ذلك أن الاستثمار في إفريقيا غير متداخل البتة مع العناوين الهوياتية والأيديولوجية كما هو الشأن بالنسبة لمثيله في الشرق الأوسط ووسط آسيا، ولهذا وجدت الدبلوماسية الاقتصادية الصينية مجالا خصبا للانطلاق القوي، لاسيما أنها تفصل الاقتصاد عن السياسة في سياستها الخارجية، في حين ما تزال الولايات المتحدة على إهمالها للقارة منذ نهاية التسعينيات لدى صياغة مشروع آيزنستات، مع الحضور التقليدي للدول الأوروبية في مستعمراتها السابقة.

وبما أن النظام الدولي لم يعد محكوما بمنطق السيطرة والهيمنة الثنائية أو الأحادية، فإن من بين دول إفريقيا كالمغرب مثلا من تحولت إلى قوة عظمى في مداها الحيوي الإفريقي، تأسيسا على منطق المعادلات اللاصفرية ومبدأ رابح-رابح، وفصل السياسة عن الاقتصاد والأمن، وتاليا الحاجيات الأساسية للبشرية، ما يبشر بأن البعد الجماعي وتكتلات القوى الإفريقية لم يعد صمام أمان أمام مخاطر الأوبئة وحسب، وإنما صار ذلك خيارا تاريخيا لا رجعة فيه.