أحد العيوب البنيوية الكبرى في النظام السياسي في عراق ما بعد ٢٠٠٣، الذي يُفترض أن يكون ديموقراطيا، هو استحالة حصول تداول سلمي، حقيقي وكامل، في السلطة، فالترتيبات والوقائع الانتخابية، والبرلمانية والسياسية التي تشكلت مبكرا منذ تأسيس مجلس الحكم في صيف ٢٠٠٣ وترسخت بحلول عام ٢٠٠٥، لا تسمح عمليا بمثل هذا التداول. 

يمكن أن يفتح بروز حركة احتجاجات تشرين في ٢٠١٩ والتفاعلات المهمة التي أحدثتها في المجتمع والسياسة الدربَ لحصول مثل هذا التداول الضروري للسلطة لبناء ديمقراطية حقيقية ولضمان استمرارها على المدى البعيد.

إن السبب الأساسي لافتقار الديموقراطية العراقية، الهشة أصلاً، لمثل هذا التداول هو مفهوم "الديموقراطية التوافقية" الذي جرى الاتفاق عليه بين الشركاء السياسيين كصيغة لحكم البلد. تعني الديموقراطية التوافقية تمثيل كل الجماعات، أو ما يُعرف بالمكونات حسب القاموس السياسي العراقي، في بنية الدولة على أساس أحجامها "المكوناتية"، بما في ذلك الحكومة والبرلمان ومؤسسات الدولة المختلفة، حتى المستقلة منها. إلى حد ما، عكس هذا الترتيب المؤسساتي الفوقي للسلطة بداياتِ الانقسام الاجتماعي الذي ظهر بعد عام ٢٠٠٣ في إطار الجدل العام، المشوه حينها، بخصوص تعريف تركة نظام صدام حسين عبر فرز اختزالي، تبنته القوى السياسية الصاعدة في ذلك الوقت، على أساس ثنائية "الظالمين" والمستفيدين من النظام السابق إزاء "المظلومين" والمتضررين منه، كجماعات وليس كأفراد. 

غذت هذه القوى الجدل المزيف وعمقت، عبر مواقفها وسلوكها السياسي، الانقسام َ الاجتماعي الناشئ حينها وصولا إلى الحرب الأهلية بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٨، لتترسخ عبر الكثير من الدم والشك والخوف ترتيباتُ الديموقراطية التوافقية في الدولة التي اصطلح عليها عراقيا بالمحاصصة الطائفية والعرقية في توزيع المناصب والتوافق الجماعاتي (سنة وشيعة وأكراد) في اتخاذ القرارات الكبرى. 

لكن بعيداً عن النموذج العراقي المشوه للديموقراطية، ما الذي يعنيه فعلاً التداول السلمي للسلطة في نظام ديموقراطي حقيقي؟  قد يكون النموذج الأميركي مناسبا لتوضيح هذه الفكرة الملتبسة عراقيا. يختلف النموذج الأميركي مع الديموقراطيات العريقة الأخرى في التفاصيل فقط، وليس في جوهر فكرة التداول (يتعقد الأمر أكثر في الأنظمة الديموقراطية المختلطة، الرئاسية والبرلمانية، كما في حالة فرنسا إذ هناك رئيس للجمهورية ينتخب مباشرةً، ورئيس وزراء ينتخب برلمانيا وأحيانا يأتي الاثنان من حزبين متنافسين ما يعني فرض "التعايش" في إدارة الدولة). تقوم فكرة التداول على منح الحكومة المتشكلة على إثر انتخابات الفرصة الكاملة لقيادة الدولة لفترة زمنية محددة هي عمر الدورة الانتخابية الواحدة (أربع أو خمس سنوات في العادة). 

في الولايات المتحدة مثلا تأتي مع كل إدارة جديدة، كما حصل في تشكل إدارة ترامب عند فوزه في انتخابات ٢٠١٦، بنحو أربعة آلاف مسؤول جديد يتولون مناصب قيادية يديرون عبرها مفاصل الدولة المختلفة، كوزراءَ ووكلاءِ وزراءَ ومعاونين ومستشارين وسفراءَ ورؤساء وكبارِ موظفي الوكالات الفيدرالية المختلفة وغيرهم.  يحتاج نحو ١٢٠٠ من هؤلاء تصويت مجلس الشيوخ للمصادقة على تعيينهم، كالوزراء ووكلائهم ورؤساء الوكالات والسفراء، فيما غالبية هؤلاء يستطيع تعيينهم الرئيس أو نائبه أو رؤساء الوكالات الفيدرالية من دون الحاجة لموافقة الكونغرس. 

يُدرج هؤلاء رسميا تحت عنوان "التعيينات السياسية" أو المُعيَّنون سياسياً، تمييزاً لهم عن المعينين إدارياً أو "التعيينات الإدارية" وهي التسمية التي تشير إلى الموظفين المَسلكيين الدائمين في الدولة الذين لا تتأثر مناصبهم أو أدوارهم بتغير الحكومات. مهمة المُعينين سياسيا هي تطبيق رؤية الرئيس الجديد في إدارة الدولة على امتداد فترته الانتخابية، وبالتالي يستطيع الشعب يستطيع تقدير مدى فشلها أو نجاحها ليقرر على أساسها إعادة انتخاب الرئيس من عدمها.

في العراق، هناك نظام شبيه نسبيا بخصوص التعيينات يميز بين التعيينات السياسية والإدارية،  يعود إلى العهد الملكي، تطور تدريجيا ونُظم بقوانين في العهد الجمهوري، إذ كانت الدرجات الخاصة تمثل الشكل السياسي المضمر لتعيين قياديي الدولة من مدير عام فما فوق. 

بعد عام ٢٠٠٣، ومع تشكيل المؤسسات التمثيلية، أصبح تعيين الدرجات الخاصة يمر بموافقة البرلمان. المشكلة الأساسية هنا هي أن هؤلاء المُعينين سياسيا لا يمثلون رؤية الحكومة، أو رئيسها، في إدارة الدولة بسبب نظام المحاصصة في المناصب الذي جعل هؤلاء ممثلين لأحزابهم في الدولة ومدافعين عن مصالحها، بدلاً من أن يكونوا مسؤولين في الدولة ينفذون الرؤية الحكومية الموحدة خدمة للصالح العام. وهكذا، بقيت النخبة السياسية ذاتها، بأحزابها المتقاسمة في سلطة القرار عبر التوافق، والمحاصصة في المناصب والنفوذ، تهيمن على إدارة الدولة من دون رؤية موحدة للحكم او تداول حقيقي للسلطة، على الرغم من مرور البلد بأربع دورات انتخابية  بعد عام ٢٠٠٣.

مرت هذه الديموقراطية التوافقية، المشوهة في تطبيقها العراقي والمعيقة لأي تداول حقيقي للسلطة، بتحديين أساسيين. كان التحدي الأول من داخل بنية السلطة نفسها، في الحكومة الثانية التي شكلها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ٢٠١٠-٢٠١٤، إذ حاول الرجل عمليا تفكيك نظامي المحاصصة والتوافق لصالح ما بدا حينئذ أنه حكومة متماسكة خلف رؤية واحدة تتخذ القرارات كاملة وتتحمل المسؤولية عن نتائج هذه القرارات. بدأ المالكي باتخاذ القرارات الكبرى بعيدا عن توافق الشركاء السياسيين على تقويض واضح للتوافق السياسي، وتعيين ذوي الدرجات الخاصة بالوكالة وليس بالأصالة، في التفاف على الاشتراط الدستوري بتصويت البرلمان عليهم، لضمان أنهم، أو أغلبهم على الأقل، يعبرون عن رؤية حكومية موحدة في إدارة الدولة. بوصفه رئيس وزراء منتخبا أصر على ممارسة صلاحياته الدستورية باحتكار سلطة القرار الحكومي، بدلاً من تشتيتها بين فرقاء متنافسين خارج الحكومة، كان يمكن للمالكي أن ينجح في محاولته هذه، بل حتى أن يحظى بدعم شعبي عابر للجماعات العرقية والمذهبية، لو كانت الرؤية التي سعى الرجل إلى تطبيقها وطنية ً وتقدم للناس علاجاً معقولاً لفشل الإدارة وهيمنة الفساد. بدلاً من ذلك، كانت رؤية الرجل طائفية وساهمت في تكريس الاحتكار الحزبي المنفرد، عوض المتعدد، للدولة، فيما عُرف بالدولة العميقة، إضافة إلى شرعنة الفساد وهدر الموارد وفوضى الإدارة التي ميزت حكومته الثانية. بنهاية عمر تلك الحكومة، كانت حصيلة الرؤية التي تبناها الرجل ونفذها كارثية: احتراب أهلي وسياسي، وخزينة خاوية، وانهيار شبه كامل للدولة، على الأخص في مؤسساتها العسكرية، كما ظهر هذا واضحا في سقوط الموصل واحتلال تنظيم داعش لثلث البلد تقريبا. احتاج البلد عملية جراحية كبرى حينها كي يتخلص من حكم المالكي الذي كان ذاهبا سريعا نحو دكتاتورية مخيفة.

أما التحدي الثاني والأهم، فكان شعبيا وجاء من خارج بنية السلطة وتمثل في احتجاجات ٢٠١٩ وتفاعلاتها المهمة التي ما تزال تتواصل. ضربت حركة الاحتجاج هذه بقوة شرعية النظام السياسي بمنظومة توافقاته ومحاصصاته النفعية والحزبية الخالية من أي أفق أو رؤية وطنية، وفرضت، على أجندة السياسة وحياة المجتمع، رؤيتها الوطنية الخاصة الرافضة للمكوناتية العرقية أو المذهبية أساساً في تنظيم الحياة السياسية. رغم وضوحها الأخلاقي المهم بخصوص الدعوة إلى مساواة كاملة وحقيقية غير مشروطة، وليست شكلية وتجميلية كالتي كرسها عمليا النظام السياسي بعد  ٢٠٠٣، بين العراقيين، بغض النظر عن جذورهم المكوناتية المختلفة، ما تزال هذه الرؤية غير متبلورة سياسيا، ولا مُمثلة مؤسساتيا.

ربما، هنا، يكمن مفترق الطرق الجوهري الذي تمر به حركة الاحتجاج اليوم بخصوص خياراتها المستقبلية. فبعد أن أعادت حركة الاحتجاج تعريف خارطة السياسة ونجحت في فرض جزء من أجندتها الوطنية بخصوص إعادة تعريف الشرعية والتمثيل السياسي عبر قانون انتخابات جديد غير منحاز بنيويا للأحزاب الكبيرة يمنح ممثلي الاحتجاج والمتعاطفين معهم، عند التنظيم الجيد، فرصا معقولة في التمثيل السياسي برلمانيا من خلال انتخابات مبكرة، ثمة حاجة حقيقية للتفكير مليّا وبجدية في خيارات خوض الانتخابات والاستعداد تنظيميا لها على نحو جيد. 

إن الاستبعاد الاحتجاجي للانتخابات جملةً وتفصيلاً من الآن، والسائد بين بعض أوساط المحتجين وداعميهم، مسلحين باعتراضات مختلفة، بعضها منطقي وبعضها الآخر عاطفي، ينطوي على تضييع فرصة مهمة لإصلاح السياسة في البلد. ثمة أجوبة، منطقية أيضا، عن الاعتراضات التي تحفزها اعتبارات منطقية. لكن لا يمكن الخوض بعقلانية في الأسئلة والأجوبة المتعلقة بخيارات حركة الاحتجاج السياسية والانتخابية عندما يكون هذا النقاش محكوما بإطار عاطفي وأخلاقي يختصر تعقيد المشهد الحالي بمواجهة بين معسكرين صارخين في اختلافهما: الأشرار والأخيار، مضمارها الوحيد هو ساحات الاحتجاج وأدواتها المتيسرة هي أفعال التظاهر. يتطلب نضج حركة الاحتجاج أن تتواصل بأشكال مختلفة، بينها الأفعال الاحتجاجية التقليدية، وتضيف لما أنجزته في عام ٢٠١٩. معنى هذا هو تجنب الإصرار المغري، لكن المضلل، على أن كل الزمن المقبل ينبغي أن يكون تكرارا حرفيا أو تقريبيا للمشهد الاحتجاجي العظيم في ٢٠١٩. من المهم هنا التخلص من الإغراء "الثوري" المترسخ بين بعض المحتجين من أنه ستكون هناك لحظة تحول معلنة ورومانسية ينتقل فيها الاحتجاج بسرعة من كونه مظلوما إلى كونه منتصرا على ظالميه. الانتصار سيكون بطيئا وتدريجيا، لأنه يحتاج صيرورة تراكم طويلة نسبيا لن تتوفر فيها لحظة واحدة واضحة بعينها يمكن الاحتفاء بها على أنها لحظة الانتصار.