بعد أكثر من ثلاثة أعوام من توقف المفاوضات، بدأت الموفدة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة جين هول لوت جولة لجزيرة قبرص تشمل إجراء نقاشات مع كل من الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس وزعيم القبارصة الأتراك إرسين تتار، وذلك لاكتشاف إمكانية عودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، واستكمال ما كان الطرفان قد توصلا إليه في المفاوضات الثنائية التي كانت تجري في سويسرا، والتي انهارت في شهر يوليو من العام 2017.

المسألة القبرصية تتنازعها رؤيتان للحل، واحدة يعترف بها ويتبناها المجتمع الدولي، بالذات دول المنظومة الأوربية، التي تعتبر قبرص جزء طبيعيا وحيويا منها.

تدعو تلك الرؤية إلى إعادة توحيد الجزيرة المقسمة بطريقة ما، لتكون جزء من الاتحاد الأوربي، وعبر نظام سياسي قائم على احترام الحقوق الثقافية والسياسية لكلا المجموعتين العرقيتين المُشكلتين لسكان الجزيرة، القبارصة الأتراك في الشمال، ونظرائهم اليونانيون في الجنوب.

الرؤية المقابلة تدفع نحو تقسيم الجزيرة إلى دولتين، وهي رؤية تتبناها الدولة التركية منذ أكثر من خمسة عقود ونصف، حينما اجتاح الجيش التركي تلك الجزيرة عام 1974، وفرض أمراً واقعاً في مناطقها الشمالية، معتبراً أنها دولة خاصة بالسكان الأتراك، مطالباً المجتمع الدولي الاعتراف بما فرضته عسكرياً كأمر واقع.

لأسباب مركبة، تعاظمت وتشددت هذه الرؤية التركية خلال السنوات الخمس الأخيرة، حتى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والحلقة الأضيق من السياسيين المحيطيين به، صاروا يعتبروا الشأن القبرصي أمراً داخلياً تماماً، وحسب أحوالها ونتائج حسم ملفها يمكن أن يتحدد المستقبل السياسي لأردوغان وحزب العدالة والتنمية.

فأردوغان يعتبر أن انتخاب إرسين تتار زعيماً جديداً (رئيساً) لجمهورية قبرص الشمالية مناسبة استثنائية لصالحه، فتتار كشخص قومي موال لأردوغان تماماً، تمكن قبل قرابة شهر واحد من هزيمة الرئيس الأسبق مصطفى أكينجي، الذي كان يُعتبر خصماً ومعارضاً سياسياً لتوجهات حزب العدالة والتنمية.

لأجل ذلك فإن أردوغان يرى في الوقت الراهن مناسبة مثالية لتصفية الإرث الذي راكمه وتركه أكينجي طوال سنوات حكمه، بالذات من حيث توفير ملاذ آمن لمعارضي أردوغان، من أفراد ومؤسسات.

يريد أردوغان لتتار أن ينفذ تلك المهمة دون ضغوط من أجواء المفاوضات المزمع عقدها، والتي قد تدفع الحكومة الشمالية لإظهار أكبر قدر من الاتزان واحترام الحريات وحقوق الإنسان ودور المؤسسات الديمقراطية في مناطق حُكمه.

كذلك فإن أردوغان يريد أن يحافظ على المسألة القبرصية كـ"نقطة التهاب" دائم، خصوصاً في مواجهة اليونان والمنظومة الأوربية، فالحالة القبرصية تمنح أردوغان أدوات الشعبوية التي يحتاجها بكثافة في الوقت الراهن، لتجاوز كم هائل من مشاكله الداخلية.

أن أي حل للمسألة القبرصية حسب الرؤية الأممية، وإن كان لصالح المواطنين القبارصة الأتراك في كل تفصيل منه، إنما سيُفقد الطبقة القومية من الساسة الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان راهناً، واحداً من ثلاثة ملفات كانت على الدوام مصدراً لبقائهم وحفاظهم على مواقعهم، فبالإضافة إلى القضية القبرصية، كانت المسألتان الكردية والأرمينية تمنحها ذل الظرف تماماً.

فوق الأمرين، فإن مناوشة أردوغان الراهنة لدول المنظومة الأوربية تحتاج إلى ورقة ضغط حيوية مثل الملف القبرصي. سواء اقتصادياً عبر ملف غاز شرق البحر المتوسط. حيث بدون الصراع القبرصي ستكون تركيا مجبرة تماماً للعودة إلى مياهها الإقليمية الضيقة، وتالياً الخروج بدون عوائد كان أردوغان يعد بها قواعده الاجتماعية وطبقة رجال الأعمال المحيطين به، أو سياسياً، حيث بحلحلة القضية القبرصية سيفقد أردوغان أداة ابتزاز رئيسية كانت تقلق الاستقرار الأوروبي.

كذلك فإن الشكل الحالي لعلاقة التبعية واحتكار الاعتراف بجمهورية قبرص الشمالية، إنما توفر لأردوغان وطبقة رجال الأعمال النافذين من حوله سيطرة استثنائية على خيرات هذه الجزيرة، التي تُعد واحدة من المناطق السياحية والاقتصادية الأكثر تطوراً مما في تركيا، وهو ما يوفر عوائد آمنة للفاعلين والمشتغلين الأتراك فيها، لأن تركيا هي بوابة سكان الجزيرة الوحيدة مع العالم، وبذلك ستخسر تركيا "زبوناً" مضموماً لو توصلت مفاوضات الطرفين إلى حلول جذرية.

يبدو أردوغان وكأنه يملك أدوات مهمة لإفشال مهمة المبعوثة الدولية، حتى أنه يمكن أن يفكك منظومة الرعاية الخماسية، التي تضم إلى جانب المجموعتين العرقيتين في الجزيرة كل من اليونان وتركيا وبريطانيا، فالفريق الحاكم للجزيرة راهناً موالي ومرتبط بأردوغان تماماً.

لكن، ومقابل كل ذلك، ولأسباب تتعلق بالتغيرات الجيوسياسية التي قد يُحدثها الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، الذي أعتبر في أكثر من مناسبة بأن تدخلات أردوغان الإقليمية تثير السلام الإقليمي والعالمي، قد يدفع ذلك أردوغان لبعض الروية السياسية، وإن كان ذلك نادراً ما حدث.