كلما ازداد الرفض الشعبي للجماعات المتقاسمة للحكم في العراق، ازداد تمسكها بالسلطة وتعسفها في معاملة المناهضين لها، المطالبين بالحقوق المُشرَّعة في الدستور، الذي تدعي الالتزام به. ويتضح هذا التعسف والتشبث بالسلطة في هشاشة ووهن ردود أفعالِها مقابل الرفض الشعبي الذي تواجهه من كل شرائح المجتمع.
وخير دليل على الفوضى التي تعيشها هذه الجماعات، والهلع الذي ينتابها حاليا، هو طرحها مشروع قانون "جرائم المعلوماتية" الذي تداوله نوابها في البرلمان مؤخرا، والذي يعبّر بوضوح عن قلقها مما يمكن أن يحصل لها في قابل الأيام، بسبب تصاعد النقمة الشعبية عليها. وبدلا من تصحيح مسارها والتوقف عن قتل الناس الأبرياء وخطفهم، وسرقة المال العام، أخذت تسعى لتحصين نفسها عبر تشريع قوانين هزيلة، بل هزلية، علما أن هذه الجماعات المتناحرة لا تلتزم بأي قانون أو ميثاق أو عهد، وتخالف علنا القيم الدينية التي تتشدق بها.
يتساءل المرء ما الهدف من (تشريع) قانون "جرائم المعلوماتية"، حينما تُقْدِم هذه الجماعات على قتل المعارضين لها دون تردد أو خوف من الملاحقة القانونية؟ هل هو لقمع المعارضين، الذين يصعب اغتيالهم جسديا، إما لتمتعهم بحماية مجتمعاتهم، أو لأنهم تمكنوا من الإفلات من قبضة حملة السلاح المقدس؟ أم أنه لإثارة البلبلة وصرف أنظار الناس عن أمور أخرى؟ أم لإيهام الناس بأن العراق بلد يلتزم الجميع فيه بالقانون، لذلك أصبح ضروريا تشريع قانون جديد ينظم عمل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؟
لقد قتل ملثمو الجماعات المتحكمة بالعراق، المرتبطة بالنظام الثيوقراطي الإيراني، آلاف العراقيين الأبرياء لمجرد أنهم عبّروا عن رأي مخالف أو تظاهروا من اجل المطالبة بحقوق منصوص عليها في القانون والدستور، ومشروعة أخلاقيا وإنسانيا، أو أنهم من العلماء والأكاديميين والمثقفين المستقلين الذين يعملون من أجل إقامة دولة عصرية مستقلة في العراق. لم تحتَج هذه الجماعات إلى قانون كي ترتكب جرائمها الشنعاء، بل أطلقت مسلحيها الملثمين فقتلوا الأبرياء وعاثوا فسادا في الأرض، ثم ادعت بأن "طرفا ثالثا"، ربما نزل من الكواكب الأخرى، هو الذي يقتل الناس!!! وبذلك قدمت هذه الجماعات دليلا لا يقبل النقض، بأنها جماعات مجردة من أي قيمة وطنية أو إنسانية أو دينية.
ما لا تفهمه هذه الجماعات المتخلفة، التي جاءت إلى الحكم عبر الدجل والتشدق بالدين وسرقة المال العام واستخدام السلاح ضد المعارضين، هو أن العالم قد تغير كثيرا، وأصبحت المعلومة تنتشر دون حواجز بفضل وسائل الاتصال الحديثة، ولا يمكن أي قانون في الدنيا أن يحجبها عن الساعين إلى الحصول عليها، وإن تمكنت جماعة متنفذة من قمع السكان وقتلهم وتكميم أفواههم مؤقتا في بلد ما، فإن باقي بني البشر لن يسكتوا عن هذا القمع والظلم والتكميم، وأن القوانين الدولية، التي تتعزز وتتكامل كل يوم لصالح حرية الأفراد، سوف تطوق كل من يسعى إلى العودة بالمجتمع البشري، أو بجزء منه إلى الوراء.
وإن كان هناك نظام معين يحمي هذه العصابات التي تنتهك القانون الدولي وقيم الحرية وحقوق الإنسان وتعتدي على البعثات الدبلوماسية، فإن مستقبل هذا النظام ليس مضمونا، بل إن العالم لن يستقر إن بقي نظام كهذا قائما.
يعاني مشروع قانون "جرائم المعلوماتية"، من عيوب تفضح جهل المروجين له، بالقانون وبالإعلام وبما يجري من تطورات في العالم. ويبدو أن مشروع القانون هذا، يُطرح على البرلمان بين الفينة والأخرى لأسباب تتعلق بالحالة النفسية المتدهورة للجماعات المتقاسمة للسلطة، وسعيها المستمر لإثارة البلبلة وإلهاء الناس بقضايا عبثية، ربما لإخفاء قضايا وجرائم أخرى ترتكبها أو تحاول تمريرها وسط الضجيج.
القوانين في العادة توضع لتنظيم نشاطات الأفراد، ودفعهم للالتزام بالقانون، وردع المتجاوزين منهم على حقوق الآخرين. لذلك لا يمكن أن تكون هناك عقوبة على (الإساءة لسمعة البلد) مثلا. الإساءة عادة لسمعة الأشخاص، وحتى هذه يصعب البرهنة عليها، إلا إذا توفر الدليل بأن هناك سعيا حثيثا ومقصودا لتشويه السمعة وأن هناك أضرارا محددة وقعت كنتيجة مباشرة له. أما الإساءة للقيم والرموز الدينية والأسرية والاجتماعية (المادة 8) فهذه مسألة فضفاضة وحمّالة أوجه، لأن مثل هذه الأشياء غير محددة، فهل يعتبر رجال الدين جميعا رموزا دينية؟
ماذا عن رجال الدين الأعضاء في الجماعات السياسية الحاكمة؟ أو قادة المليشيات التي تمارس القتل والخطف والابتزاز والسرقة؟ هل يجب أن يكون هؤلاء بمنأى عن النقد مثلا؟ ثم عن أي قيم دينية وأسرية واجتماعية يتحدث هؤلاء، في وقت تقوم فيه الجماعات المسلحة بقتل الأبرياء وخطفهم وقمعهم والافتراء عليهم؟ معظم الجماعات (السياسية) في العراق لديه ذراع مسلح، وقناة تلفزيونية هي مجرد بوق يبث الأكاذيب والافتراءات ويضلل الناس. فهل يشمل هذا القانون الافتراءات التي تطلقها المواقع والقنوات التابعة للجماعات المسلحة ضد الناشطين والمثقفين والصحفيين والسياسيين العراقيين، وتطعن بشرفهم وتتهمهم بالارتباط بالسفارات الاجنبية؟
من الواضح أن مشروع القانون هذا مكرس لمحاربة خصوم هذه الجماعات، وهم غالبية الشعب العراقي، ويهدف إلى إرهاب الناس العاديين وتكميم أفواههم وتهديدهم بالملاحقة القانونية إن هم عبّروا عن آرائهم، أما أعضاء الجماعات المسلحة فلا رادع لهم لأنهم يمتلكون السلاح والمال ووسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية والتبرير الديني والحماية التي توفرها لهم دولة أخرى (مقدسة)، يهربون إليها عندما تضيق بهم السبل ويتخلى عنهم حُماتُهم في الداخل بسبب إيغالهم في السرقات والجرائم.
منظمة هيومن رايتس ووتش الدولية لحقوق الإنسان فسرت مشروع القانون على أنه "يهدف إلى قمع المعارضين"، باعتبار أنه كان قد قُدِّم إلى البرلمان أولَ مرة عام 2011، بعد احتجاجات عراقية، هددت بالإطاحة برئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي. لكن السؤال الملح هو لماذا تسمح الحكومة الحالية التي جاءت إلى السلطة نتيجة للاحتجاجات الشعبية، بطرح مشروع القانون هذا في البرلمان؟
مشاريع القوانين عادة ما ترسلها الحكومة إلى البرلمان، وإن لم يمر القانون، بسبب اعتراضات النواب عليه، فإنه يُلغى، أو يعاد إلى الحكومة لتعديله. ليس صحيحا، ولا مقبولا أو مألوفا، أن تبقى القوانين على رفوف البرلمان تنتظر الفرصة المناسبة لتمريرها في غفلة من الشعب، عند غياب النواب المعارضين لها، أو غفلتهم عنها، كما حصل في مشروع قانون (عائدات البلديات) الذي تبناه شخص معروف بالفساد والتفاهة المعرفية، ومرره في غفلة من النواب، ثم أصدر بيانا يبشر فيه (مراجع الدين) بتمرير القانون انتصارا للدين والمذهب! وكأن مراجع الدين قد كلفوه بهذا الأمر. الطريف أنه اختفى عن الأنظار بعد تلك (البطولة) التي ظن أن الشعب سوف يتجرعها ويقبله بطلا في زمن شح فيه الأبطال.
الجماعات المتقاسمة حاليا للسلطة والنفوذ في العراق فقدت صدقيتها منذ شيوع فسادِها في حكومتها الأولى عام 2005، ثم تراكمت إخفاقاتها وسرقاتها وجرائمها، وأصبحت جلية لكل ذي عين، لذلك فإن أي إجراءات ترقيعية، كإصدار قوانين لتكميم الأفواه، وتغليفها بتبريرات دينية أو أخلاقية، لن يجدي نفعا، لأن الناس لم يعودوا يقتنعون بأي تبرير بعد 17 عاما من تراكم الفشل والفساد والعنف والدجل والتشدق بالدين لسرقة الناس وخداعهم.
خلاصة القول إن هذه الجماعات أصبحت مرفوضة مهما فعلت، وعليها أن تتنحى جانبا قبل أن تُنحّى بالقوة أو تتسبب بإشاعة فوضى عارمة تكون هي أولى ضحاياها لأنها ليست أقوى من الشعب.
تحاول هذه الجماعات أن تحتال على الشعب مرة أخرى عبر تمرير مخططاتها في الانتخابات المقبلة، وتقديم شخصيات شابة لقيادة أحزاب بأسماء جديدة، لكن هذه الأساليب هي الأخرى مفضوحة. الحل الأمثل لها هو أن تحذو حذو حركة النهضة التونسية، عندما تنحت عن السلطة، فحافظت على قدر من التمثيل في البرلمان والنفوذ في البلد، بحيث تتمكن من حماية قادتها وأعضائها إن تعرضوا للمساءلة القانونية. أما السيناريو الآخر فهو السيناريو المصري، عندما لبى الجيش مطالب الشعب وأطاح بجماعة الاخوان وأودعهم السجون، وفي خلاف ذلك، سوف ينزلق البلد إلى الفوضى، التي يقتل فيها أبناء البلد بعضهم بعضا.
التمسك بالسلطة بأي ثمن هو حماقة تقود إلى عواقب وخيمة، أسوأها تفكك البلد وشيوع العنف والاغتيالات، وقد رأينا بوادر هذا في الناصرية قبل أيام عندما هاجمت جماعة سياسية توهمت بأنها فوق القانون والمجتمع، وأن بإمكانها أن تقمع الشعب الثائر وتقتل قادته كي تتسيد الساحة، وكانت النتيجة أن الناس لجأوا إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، فحمل السلاح ليس حكرا على أحد في غياب سلطة الدولة، ولا يحتاج العراقي إلى رخصة من إيران كي يحمله للدفاع عن نفسه، والشعب هو بالتأكيد أقوى من أي جماعة سياسية، حتى وإن كانت تتمتع بحماية دولة إقليمية، وقد قدم أهالي الناصرية الدليل القاطع على هذه الحقيقة.
ليعلم المعولون على دعم إيران، بأنها ضعيفة ومحاصرة دوليا وإقليميا، ويمكن أن تتخلى عنهم في أي لحظة عندما تتفق مع المجتمع الدولي على طريقة معينة لرفع الحصار عنها، أو عندما يتغير النظام تحت ضغوط الشعب الإيراني المحاصر. عليهم ألا ينسوا ما حصل عام 1975 عندما تخلت إيران عن جماعة مسلحة كانت تدعمها، بعد إبرامها اتفاقية الجزائر مع العراق.
يبدو أن الجماعات المتقاسمة للسلطة في العراق تحفر قبورها بأيديها، ولا ينفع معها النصح الذي قدمه لهم المخلصون من المثقفين والخبراء والمراقبين، الحريصين على استقرار العراق وتقدمه وتجنيبه خطر التفكك والاقتتال. المطلوب عاجلا أن تتخذ المرجعية الدينية موقفا تجاه مسألة توظيف الجماعات المسلحة للدين لتبرير أفعالها، فهذا الأمر له عواقب وخيمة على الدين والمجتمع ومستقبل البلد والمنطقة برمتها، وأن التصدي له من صلب مسؤولياتها.