قبل بضعة أيام، كتب رئيس وزراء قطر الأسبق حمد بن جاسم، عبر تويتر يقول : "نحن لا نستمد قوتنا من رئيس جمهوري أو ديمقراطي في البيت الأبيض، ولكن يفترض أن نستمدها من شعوبنا".
اعتاد المرء أن يفكك ويحلل كلمات هذا الرجل الذي لعب دورا كبيرا في إفساد المشهد الشرق أوسطي خلال العقد المنصرم، ولهذا فإن كلماته التي تستبق تسلم الرئيس الأميركي المنتخب جوزيف بايدن سلطاته في 20 يناير تشرين الثاني المقبل، ربما تشي بشيء كبير من القلق والمخاوف التي تنتاب قطر تجاه إدارة الرجل القادم، لا سيما وأن الأجواء في واشنطن تبدو ضبابية تجاه الدوحة، والأصوات تعلو بأن حان الوقت لمحاسبتها.
ذات مرة، تحدث الفيلسوف الفرنسي من أصل بلغاري الراحل "تزيفتان تيدوروف "، قائلا إنه:" لا أحد يحتل وينجو ببراءة "، ما يعني أن المحتل عاجلا أو آجلا سوف يدفع ثمن احتلاله، وهو الأمر عينه الذي ينسحب على قطر، وما ارتكبته من فظائع واحتلال للعقول والقلوب من جهة، وما يسرته لجماعات الإرهاب لاحتلال لوجستي على الأرض بالفعل.
تبدو قطر هذه الأيام أمام لحظة دفع تكاليف عالية وغالية، وهذا أمر يلفت الانتباه على الرغم من خسارة ترامب الانتخابات، ومجيء إدارة ديمقراطية، على رأسها رئيس شغل منصب نائب رئيس أميركي سابق، يسر وصول الأصوليين إلى الحكم، فيما لعبت قطر أكبر دور ولا تزال لدعم تيارات الإسلام السياسي شرق أوسطيا وعالميا.
مخاوف قطر من الفترة السياسية المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية مرجعها ولابد قراءة استباقية أدركت معها الدوحة أن الماضي لا يعود، وأن كون بايدن كان نائبا لأوباما، أمر لا يعني بالضرورة أن زمن الربيع العربي المغشوش ينبغي أن يحلق من جديد فوق سماوات المنطقة، وذلك لأكثر من سبب.
في المقدمة من تلك الأسباب التغييرات الجذرية، والخطوات التصحيحية التي حدثت في طول بلدان المنطقة وعرضها، واستكشاف مكامن الأخطاء، والعمل على تصحيحها عبر برامج وطنية حقيقية، نابعة من إرادات سياسية وليس توجهات فوقية إمبريالية.
ومن الأسباب كذلك أن الشعوب العربية قد اكتشفت الزيف والخديعة اللذين غلفا مشروع الأصولية الإسلاموية، الذي قادته جماعة الإخوان المسلمين، وقد ظهر جليا أنه " لا مشروع " من الأساس، إنما هو محاولة لاختطاف كراسي الحكم، ومن ثم إفشاء ديكتاتورية قاسية القلب، متكلسة العقل.
كانت الدوحة تدرك جميع ما تقدم خلال الأشهر الماضية، ولهذا رأيناها تسابق الريح داخل واشنطن في محاولة لاكتساب داعمين جدد لمشروعها السياسي، حتى وإن استخدمت سلاح الرشى المالية لتحقيق تلك الأهداف، كعادتها أبدا ودوما، ومن غير أن ترتدع بفشل تجارب سابقة، وافتضاح أمرها أمام الأمريكيين أنفسهم.
والشاهد أنه ما من شك في وجود فساد لدى بعض النخبة السياسية الأميركية، تلك الخاضعة لضغوط الأموال القطرية وقد كان آخرها المرشح الديمقراطي لمجلس الشيوخ الأميركي "جون سوليفان"، صاحب شركة الإنتاج الفني، الذي أغدقت الدوحة على شركته آلاف الدولارات بحجة إنتاج أفلام وثائقية لصالح قناة الجزيرة، الذراع الإعلامية لقطر، وهو الأمر الذي كشفته قناة " فوكس نيوز " الأميركية على الملأ.
فضيحة "سوليفان " جعلت أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ يفتحون النيران على قطر وأدواتها الإعلامية، وفي مقدمتها قناة الجزيرة، وقد وصفها "جون بورك"؛ المتحدث باسم حملة السيناتور الجمهوري "بير ديو"، بأنها "الناطقُ باسم الإرهابيين"، فكيف يمكن أن يثق الجورجيون به للوقوف في وجه أعداء أميركا بينما هم يدفعون له؟.
يوما تلو الآخر، يتبدى وجه الدوحة في الداخل الأميركي، والخلاصة واحدة، وهي أنه مهما ضغطت قطر بأموالها، العلنية والخفية، فإن الأمر لن يفيدها في غسل سمعتها السيئة.
غير أن بعض التطورات الحساسة والحرجة وفي مواقع متقدمة من واشنطن أربكت ولاشك حسابات الدوحة في الأيام القليلة الماضية على أبعد حد ومد.. ماذا عن ذلك؟.
قبل أسبوع، وعلى صدر صحيفة "واشنطن تايمز"، طالع الأميركيون والعالم من ورائِـهم تقريرا مطولا لكاتبه رجل الاستخبارات الأميركية وضابط العمليات السابق" سام فاديس " المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأوربا.. ما هي خلاصة هذا التقرير؟.
باختصار غير مخل، يستنتج المرء ما يلي: " قطر دولة منعزلة نائية، حيث تواصل العمل على تمكين جماعة الإخوان المسلمين، وتقديم الدعم المالي لها، كما أنها لا تزال تقوم على رعاية الجماعات الإسلامية المتطرفة، في جميع أنحاء أوربا، وهي التي تواصل دعم حماس ودعم الإرهابيين في القرن الإفريقي ".
كارثة قطر في عيون رجل الاستخبارات الأميركية تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ يرى أنها باتت تنسج شبكة خطيرة على أمن المنطقة والعالم، لا سيما مع أطراف غير صديقة للولايات المتحدة الأميركية، بل تمثل جبل الخلافات الواضح للعيان، فهي التي دعت الأتراك لإقامة قواعد عسكرية على أراضيها، كما تتشارك مع إيران في توجهات سياسية وشراكات اقتصادية وتجارية، وهذه وتلك – حُكما – سوف تهدد الوجود الأميركي في منطقة الخليج العربي أول الأمر، وحلفاء أميركا في المنطقة بالضرورة.
في هذا السياق، يرى فاديس أن إعادة النظر في الوجود الأميركي في قطر "مسألة لا تعد مجرد خطوة سياسية وأمنية وطنية حكيمة فحسب، بل إن لها جدوى واضحة من منظور مالي أيضا".
على أن الطامة الكبرى التي ستواجه قطر في قادم الأيام هي تلك الموصولة بأعضاء إدارة الرئيس بايدن، لا سيما المستشار المتوقع للأمن القومي "جيك سوليفان "، المعروف بانتقاداته المتكررة للدور القطري في دعم الجماعات الإرهابية.
والثابت أن سوليفان، كان قد أشار خلال مؤتمر نظمته مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية عام 2017 إلى امتلاك واشنطن أدلة على تورط قطر مع الجماعات الإرهابية، وكان المؤتمر قد نظم بشأن علاقة الدوحة بجماعات الإخوان الإرهابية، ويومها قال ما نصُّه "إننا لا نعطي الأولوية القصوى للتهديدات التي تمس أمننا القومي والناتجة عن تمويل الجماعات الإرهابية من قبل قطر ودول أخرى".
مستشار الأمن القومي الأميركي القادم رجل يؤمن بأن قطر لا يمكن أن تؤثر على القرار الأميركي بسبب القاعدة الأمريكية على أراضيها، بل إنه في عالم مثالي يمكن للولايات المتحدة فيه أن تملك قواعد عسكرية في مختلف أرجاء العالم".
ماذا يعني ما تقدم؟
باختصار غير مخل، يفيد بأن قطر ستلاقي أياما عصيبة، وهذا ما جعل حمد بن جاسم، يتراجع القهقرى، مُحاولا رجْعَ قرارِ بلادِهِ إلى ما أسْماهُ إرادةَ شعبِه.
الخلاصة.. الدوحة.. أوان الحساب على الأبواب.