فيما يستمر الجدل القانوني الذي يمهد لإصدار النسخة الرسمية النهائية لنتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وفيما يتأمل البعض الرقم القياسي التاريخي الذي حققه المرشح الديمقراطي جو بايدن بمستوى وصل إلى 75 مليون صوت.
وهو مستوى لم يحققه أي مرشح في تاريخ البلاد، تنهمك التحليلات في محاولة لتفسير حصول الرئيس المرشح دونالد ترامب على 71 مليون صوت، وهو أيضا مستوى تاريخي لم يسبق أن حققه رئيس مرشح في تاريخ الولايات المتحدة.
تكال الاتهامات ضد ترامب بسوء تقدير خطورة "الفيروس الصيني" وباهمال اتخاذ إجراءات جدية مبكرة تليق بدولة كبرى كالولايات المتحدة. لا بل ذهب الرئيس الأميركي إلى السخرية من الفيروس (حتى حين نال منه شخصيا) ومن قدرته على النيل من "أميركا العظيمة". وبات عدم ارتداء الكمامة من طقوس القوة بالنسبة له ولأنصاره في البلاد.
بطش كوفيد-19 بأميركا فقضى على ربع مليون مخلفا أقسى النتائج الكارثية لتلك الجائحة في العالم. أساء ترامب وإدارته إدارة إدارة الأزمة والتعامل معها، وبدا أن هذا الهراء كان وراء الكارثة في أميركا. ومع ذلك صوت 71 مليونا لترامب مجددا.
في التفسير العاجل أن دونالد ترامب الذي فاز في انتخابات 2016 على نحو غير متوقع، استطاع خلال السنوات الأربع الماضي تحويل الصدفة إلى واقع يراد له أن يكون دائما يستحق أربع سنوات أخرى، فأضاف إلى رصيده 8 ملايين ناخب جديد (حوالي 63 مليونا صوتوا لترامب عام 2016). في بعض ما كتب استغراب من أن تذهب هذه الملايين لانتخاب رئيس لم يخف عنصرية ولا صلفا ولا سخرية من النساء أو أصحاب العاهات، ولم يخف غطرسة وغرورا ونرجسية وزعما متخيلا بالقوة. وفي بعض ما كتب أيضا دعوة إلى فهم هذه الملايين التي لم تصوت لترامب بالرغم من ذلك، بل لأنه كذلك.
باتت أميركا نفسها تدرك حدة الانقسام المجتمعي الذي كشفته الانتخابات الأخيرة. ربما أن الأمر كان سيكون أسهل لو أن أحد الفائزين حقق تسونامي، فيما أن ما نتج عن هذه الانتخابات هو أن أميركا شهدت حالتي تسونامي أحدثتا زلزالا في بنية المجتمع الأميركي وأعادتا إليه وجع الانقسام الأليم المتناسل من حرب أهلية قديمة. وفي ذلك أن الحزب الديمقراطي ومرشحه الفائز جو بايدن يقفان أمام حقيقة أن كتلة فوز من 75 مليونا تفرض الأخذ الجيد بالاعتبار كتلة مضادة من 71 مليونا وجب فهمها، وقد يكون ذلك صعبا وعسيرا.
وما يجعل التفسير معقداً هو أن الكتلة الناخبة لترامب ليست بالضرورة عنصرية كارهة للسود والأجانب وتنهل حوافزها الانتخابية من عقائد يمينية متطرفة أو إنجيلية متعصبة. أعدادا كبيرة من ناخبي ترامب هم مواطنون صالحون وجدوا في خطاب ترامب، على شعبويته، ملاذا يقيهم خطابا مضادا يعد بحُقنٍ من الليبرالية الأخلاقية تهدد أسوار المحافظة الأخلاقية التي لطالما التصقت بقيم الحزب الجمهوري. وفي ذلك أن "السمعة" اليسارية التي نفخها بيرني سندرز في دعمه الأكيد لبايدن (شيء لم يفعله مع هيلاري كلينتون)، سهّل لحملة ترامب الترويج لشيوعية اشتراكية زاحفة على البلاد وجب دعم جدار ترامب لصدّها. وبدا أن شعبويتين، يسارية ويمينية، يملآن أي فراغ.
ربما كتلة ترامب المليونية الناخبة قد تستدعي أن لا يقلق بايدن من احتمال احتفاظ الجمهوريين بالأغلبية في مجلس الشيوخ (بانتظار الفرعية المزدوجة في ولاية جورجيا في 5 يناير المقبل). لن تقوى أميركا المنقسمة أن يخضع بايدن الرئيس للتيار اليساري المتشدد داخل الحزب الديمقراطي، وبالتالي سيستند الرئيس الديمقراطي على واقع الأغلبية الجمهورية المحتملة في الكونغرس لكي يواجه لوبي ساندرز ودوائره.
والواضح أن بايدن، الذي سيدخل البيت الأبيض محمولا بتصويت شعبي تاريخي غير مسبوق، رأى جيدا ملايين ترامب القياسية أيضا. توجه إلى أميركا متحدثا إلى كل الأميركيين خصوصا الذين لم يصوتوا له في أول محاولة لمقاربةٍ فطنةٍ لنصف شعب الولايات المتحدة الذي ما زال يعتبر أن دونالد ترامب رئيسا جيدا يستحق ولاية أخرى في البيت الأبيض.
على أن ترامب، الذي يبالغ في عناده في رفض قبول الأمر الواقع الجديد، بات رقما صعبا داخل الحزب الجمهوري. لا تستطيع أركان الحزب إلا الاعتراف بقوة قاعدة الرجل الشعبية، والإقرار بأن لا بدائل أخرى غير ذلك الحصان الذي أتى من خارج الحزب وخارج المؤسسات السياسية ودخل البيت الأبيض في انتخابات 2016 مطيحا بكل المرشحين الجمهوريين، قبل أن يطيح بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وإذا ما كان ترامب سيدخل خلال الأربع سنوات المقبلة في حملة انتخابية يومية تمهيدا لليوم الكبير في نوفمبر 2024، فإن أمام جو بايدن وكمالا هاريس والحزب الديمقراطي كثيرا من العمل الدؤوب للمحافظة على القفزة التي تحققت داخل الكتلة الأميركية الناخبة، والكثير الكثير من العمل الخلاق لمقاربة كتلة أميركية هائلة ارتضت دونالد ترامب زعيما لها وتوده زعيما لأميركا.