لئن أثارت عملية نيس الإرهابية الأخيرة، الخميس 29 أكتوبر، أسئلة كثيرة تتصل بقضايا الإسلام في فرنسا والاندماج ودور التنظيمات الإسلامية في فرنسا وغيرها من الأسئلة، إلا أن جنسية المنفذ، ابراهيم العيساوي، فرضت التساؤل مجددا عن أسباب ارتفاع حضور الشباب التونسي في تنظيمات الإرهاب.
لماذا ترتفع أعداد العناصر التونسية في التنظيمات الإرهابية؟ سؤال يحيل على إشكالية عميقة يعادُ طرحها كلما تبين أن شابا تونسيا نفذ أو شارك في تنفيذ عملية إرهابية سواء في الجغرافيا العربية الإسلامية أو في أوروبا، وكلما صدرت أرقام دالّة على الحضور التونسي في تنظيمات الإرهاب، والإشكالية تحضُّ على الحفر في أسباب التباين بين الواقع التونسي القائم على عراقة النسيج المدني والحزبي، وعلى القوانين المدنية المبكرة والتعليم الإجباري زمن دولة الاستقلال، وبين "ازدهار" صناعة العناصر المتطرفة خاصة بعد ثورة عام 2011، ولو أن ذلك لا يحجب كون الظاهرة كانت موجودة قبل ذلك (اغتيال الزعيم الأفغاني أحمد شاه مسعود في 9 سبتمبر 2001 على يد المتطرف التونسي طارق معروفي).
تكمنُ أهمية عملية نيس الأخيرة في أنها قوّضت الكثير من المقولات القديمة التي حاولت إرجاع الأمر إلى تأثير زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي والزعيم الحبيب بورقيبة، في ما يتصل خاصة بالمسألة الدينية. إبراهيم العيساوي، منفذ عملية نيس، شاب لم يتجاوز عمره 21 سنة، ما يعني أنه كان طفلا زمن ثورة 2011، وما يعني أيضا أنه درس وترعرع زمن الثورة، وتسربت له الأفكار المتطرفة بعد 2011.
إحالة شيوع الإرهاب إلى زمن بورقيبة وبن علي نشأت من عقل إسلاموي كسول ركنَ إلى انتقاء ما ينفعه من العوامل، وما يدفع عنه تهم المشاركة في صنع بذور الإرهاب وردمها في التربة التونسية، وارتكب خطأ مزدوجا في قراءة الظاهرة. الخطأ الأول هو أن القراءات الإسلامية حاولت إرجاع الظاهرة إلى عامل واحد هو عامل السلطة التي تجنت على هوية الشعب وصحّرت البعد الديني، على حد تعبيرها.
الخطأ الثاني هو أن هذه القراءات تضمرُ تبرئة الجماعات الإسلامية، في تونس وخارجها، من مسؤوليتها في توفير عوامل ازدهار التطرف، والحال أن مقارعة هذه القراءة بما حدث خاصة سنوات 2011 و2012، من تغاضي سلطة الترويكا (بقيادة حركة النهضة) عن تفشي الخيمات الدعوية وخروج الكثير من المساجد من سيطرة الدولة وتطرف الخطاب الديني في الفضاء العام وفي الإعلام، تشي بأن مناخا فكريا وثقافيا وسياسيا تشكل في تلك المرحلة، وساهم بقوة في استقطاب الكثير من الشباب نحو التنظيمات الإرهابية، وأدى لاحقا إلى تسفيرهم نحو بؤر التوتر في سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها. مفيد التذكير هنا بأن راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، وصف المتطرفين في تونس بأنهم "أبناء بن علي، وضحايا الفراغ الديني والعلمي وحملات القمع التي تعرض لها رموز الفكر الإسلامي التونسي طوال العقود الماضية".
يُمكنُ الركون إلى أن للسلطات السابقة دور مساهم في نزوع الشباب التونسي نحو التطرف، من خلال تضافر عوامل التهميش وغياب التنمية الاقتصادية والتضييق السياسي وخنق الحريات، لكن هذه العوامل لم تؤدّ مجتمعة إلى "طفرة" إرهابية من قبيل التي حصلت بعد الثورة، فضلا عن كون الكثير من العناصر التونسية المتطرفة كانت تنحدر من أصول اجتماعية ميسورة وذات تعليم جامعي، ما يدحضُ أيضا مقولة ربط الإرهاب بالفقر أو بنقص التعليم.
ارتفاع ضلوع التونسيين في العمليات الإرهابية ونجاح تنظيمات الإرهاب في استقطاب أعداد كبيرة من التونسيين، ظاهرة تقف وراءها عوامل متداخلة. العامل الأول المحدد هو عامل فكري دفين وقديم، يتمثل في أن التعليم البورقيبي وقوانين المرأة المتقدمة بمعايير ذلك الزمن، لم تنجح في حماية تونس من تسرب مرجعيات دينية متطرفة، ولم تتوصل إلى إبعاد فئات واسعة من التونسيين عن تأثير أفكار جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات التي نجحت في تسريب رملها إلى الأقطار العربية عبر وسائل عديدة، مثل الكتب والدعاة والكاسيت ولاحقا الفضائيات الدينية. وهذا البعد ازداد تأثيرا مع تأسيس الجماعة الإسلامية (تحولت عام 1981 إلى الاتجاه الإسلامي ثم إلى حركة النهضة) عام 1972، والتي نجحت في تجميع الكثير من الشباب التونسي حول شعاراتها السياسية المغلفة بخطاب ديني محافظ.
العامل الثاني هو عامل سياسي طارئ وجديد، وتغذى من العامل الأول (الفكري) وهو ما حصل بعد ثورة 14 يناير 2011، من تغاض رسمي مقصود عن تنامي التيارات الدينية، التي بالغت في استعراضاتها وفي إبراز مظاهر حضورها في الفضاء العام (جماعة أنصار الشريعة نظمت مؤتمرها في مدينة القيروان عام 2012 على مرأى ومسمع من السلطة القائمة، وبمشاركة العديد من قيادات حركة النهضة). يضاف إلى ذلك الاعتداءات الكثيرة التي نفذتها الجماعات السلفية التي تناسلت في تلك الفترة، على فعاليات ثقافية وحقوقية وسياسية وإعلامية، وصولا إلى الذروة التي تمثلت في اغتيالين سياسيين، طالا الزعيمين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في العام 2013، وهو ما أفاق البلاد على الأخطار المحدقة التي تتهددها من الداخل.
الإجماع التونسي والعربي والعالمي، على أن الظاهرة الإرهابية في تونس ازدهرت بعد الثورة، لم يقابله اعتراف من قبل حركة النهضة التي شاركت بفعالية في كل الحكومات التي تعاقبت على الحكم منذ انتخابات أكتوبر 2011 حتى بالمسؤولية السياسية، ولم يوازه طرح للقضية على بساط البحث الأكاديمي العميق، عدا بعض الكتابات الجريئة التي حاولت تسليط الضوء على الظاهرة وربطها بما حدث بعد الثورة، وكانت تلاقي دائما موجات الانتقاد وتهم التحامل.
للإرهاب مناخ يصنعه يغذيه، وهو نتيجة مركبة لعوامل متداخلة، ولن يبدأ علاج الظاهرة إلا بالتشخيص الجريء الذي يقول الحقيقة كاملة، عمن يزود الإرهاب بمناهله الفكرية وبتمويله وخططه وبرامجه، ومن يستفيد من آثاره ويرنو إلى جني حصاد زرعه القريبة والبعيدة. وهذا هدف بعيد المنال لن يتحقق إلا بوجود إعلام حر وتعليم متنور وقضاء مستقل وحياة سياسية سوية.