تعرضت المنطقة العربية منذ أربعينيات القرن الماضي إلى زلازل سياسية موجعة كانت بمثابة جراحات ما زالت تعيش المنطقة نتائجها حتى يومنا هذا. عرف العرب نكبة عام 1948 الفلسطينية، والعدوان الثلاثي على مصر عام 1965، والهزيمة المروعة عام 1967، وصولا إلى حروب ضربت المنطقة تعددت ميادينها وأطرافها.

وعلى الرغم من حالة الغضب والإحباط الكبيرين التي مست شعوب المنطقة برمتها، لم يخرج "إرهاب إسلامي" يذبح الناس ويرتكب ضدهم المجازر في عالم "أهل الكفر"، وفق التوصيفات الفقهية للأصولية والتطرف، ووفق كتبها واجتهادات فقهائها.

كان الفضاء السياسي العام حتى نهايات السبعينيات محتلا من قبل أيديولوجيات متسربة من أجواء الحرب الباردة، بحيث راجت التيارات القومية واليسارية والثورية، وبات الخطاب الناصري والبعثي والشيوعي، وحتى ذلك الذي ضخته الفصائل الفلسطينية، يزوّد العامة بأجوبة متعددة، غزيرة، لم تسمح للهامش الديني والأصولي أن يكون له مكان ومكانة في النقاش السياسي العام.

كان الإسلام السياسي المُعادُ إنتاجه من قبل أبو الأعلى المودودي وسيد قطب وحسن البنا وغيرهم، يسعى لتلمس "معالم" (وفق قطب) له في فضاء كان يخرج للتو من مرحلة الاستعمار وشبه الاستعمار إلى مرحلة الاستقلال وقيام دول وطنية بالمعنى الذي لم يكن معروفا أو متعارفا عليه قبل ذلك. بيد أن خطاب الإسلاموية الذي كان يبشّر بالحنين إلى "الخلافة" التي زالت باندثار السلطنة العثمانية، اصطدم مع خطاب الأنظمة والأفكار والأيديولوجيات الفتية الصاعدة، فكان النصر لـ "التقدميين" على حساب "الماضويين" وفق الجدل الذي كان سائداً.

الإسلاموية نفسها لم تكن معنية بـ "المشاركة في معركة التحرر والتقدم والتخلص من براثن الاستعمار، القديم، أو ذلك الجديد الذي ظهر مع قيام دولة إسرائيل. وكانت تلك الإسلاموية، سلفية كانت أم إخوانية، منصرفة إلى الاشتغال على "الدعوة" وعدم التشجيع على الانخراط داخل فصائل المقاومة في فلسطين، كما عدم دعم الأنظمة السياسية التي عادتها، وبالتالي لم ترفد خطابها وجهدها في مسألة رد الاحتلال الإسرائيلي، الذي بات مسألة ما فوق فلسطينية بعد أن احتلت إسرائيل أراض للدول التي هزمتها عام 1967.

حتى داخل الدائرة الفلسطينية تحفّظ الإسلام السياسي عن دخول معترك العمل العسكري المباشر الذي بدأته حركة فتح عام 1965. ولئن لعبت شخصيات دينية كبرى أدوارا في مقاومة قيام دولة إسرائيل قبل ذلك (المفتي أمين الحسيني والشيخ حسن أبو سعود والشيخ محمد يوسف العلمي والشيخ عز الدين القسام وغيرهم)، إلا أن الإسلاموية الفلسطينية كان لها موقف سلبي بعد رواج الفصائل الثورية في الستينيات، إلى درجة تكفيرها وعدم الاعتراف بشهادة قتلاها. ولم يظهر التحول في قراءة الفرع الفلسطيني للاخوان المسلمين المتمثل بحركة حماس، التي أنشأها الشيخ أحمد ياسين، إلا في منتصف الثمانينيات.

والواضح أن رواج الإسلام السياسي في المنطقة له تفسيرات بديهية توضح منطق تحوله إلى يد ضاربة، خطيرة، تستخدمها العواصم في المكان، والزمان المناسبين، وفق الحسابات والأجندات الملتبسة. 

ولم يعد اكتشافا لافتا أن قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وفق ما حمله روح الله الخميني من باريس عام 1979،  ترافق مع تصدع للفكر اللاديني، وصولا إلى انهياره، مع اندثار الاتحاد السوفياتي وتلوث مخزونه الماركسي. وليس سبقا الاعتراف بأن نظام طهران الجديد أجاد، منذ ظهوره، استخدام الدين سلاحا وحيدا في كل معاركه، سواء في الحرب مع العراق أو في غزواته في كل المنطقة، أو في مواجهاته الداخلية والدولية الكبرى.

وعلى هذه القاعدة استعاد الإسلام السياسي نشاطه ووجد قبلته الجديدة، بنسختيه السنية والشيعية، في طهران، قبل أن يأتي نظام حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان، ويقترح للإسلاموية السنية (لا سيما الإخوانية) قبلة بديلة في أنقرة. 

وعلى هذا فإن حراك الإسلام السياسي بأحزابه وجماعاته وجمعياته ومنابره وشخوصه، يوجه بوصلته في فلسطين ولبنان والعراق، كما في سوريا وليبيا واليمن، كما في دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا هذه الأيام) كما العالم أجمع، وفق بوصلة الحاكم في إيران كما الحاكم في تركيا.

وقد كان واضحا مدى التزام تلك "الجماعات" بدقة بتوجهات أنقرة وطهران في مقاربة الأزمة مع فرنسا، بحيث بدت حركتها متطرفة شديدة وفق الخطاب التركي، ومعتدلة متحفظة وفق الخطاب الإيراني.

وتكشف الشعبوية الإسلاموية الحديثة أنها في خدمة المأزومين، سواء في ما صدر عن أردوغان من مواقف، سيتراجع عنها كما تراجع عن غيرها، أو في ما صدر عن رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، المُقال من حزبه، من مواقف تحدثت عن "حق المسلمين في قتل ملايين الفرنسيين" (تغريدة حذفها تويتر).

لا نناقش هنا صحة موقف ماكرون من عدمه (وهو الذي أفاض قبل أيام في تفسير ذلك)، بل ما انكشف عندنا من عطب وبات جليا. والواضح أن الإسلام السياسي الذي خرج من الهامش، في العقود التي سبقت قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وانتقل إلى المتن، في ظروف حرب تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفياتي في الثمانينيات، ما زال ممسكا بحركية الفضاء الديني داخل العالم الإسلامي في المناسبات الشعبوية التي تتوفر، كتلك التي تبرعت بها الأزمة الفرنسية. 

والواضح أيضا أن مواجهة خطاب الكراهية والتطرف بات مسؤولية دولية كبرى، يلعب فيها العالم الإسلامي الدور الأكبر، وأن الدين مختطف لحساب جماعات منظمة ممولة تجيد سوق الناس وتحريضهم، وهي صنعة يجيدونها. وبانتظار ولادة وتطور خطاب مدني يعيد "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، بات المطلوب جرأة تاريخية لم تُقدم عليها المراجع الدينية الرسمية الكبرى المسماة معتدلة، والتي ثبت أنه يسهل استدراجها نحو موقع يُلحق إدانة الجريمة بـ "لكن" التبرير.

جماعات الإسلام السياسي وعواصمها الراعية واضحةٌ في سعيها، مباشرةٌ في أجنداتها وخططها. المشكلة تكمن في رمادية وتخبط وتلعثم من يُربكه الدفاع عن الدين بما يقوله الدين.