يجوب المسؤولون العراقيون دول العالم طالبين الدعم المالي والاقتصادي والعسكري والسياسي، بعدما أفرغ الفاسدون خزينة الدولة وأنهك المسلحون قواها ومزق السياسيون شملها، وفي الوقت نفسه يرددون بأنهم يريدون "علاقاتٍ متوازنة" مع دول العالم أجمع، وتجنيب العراق أن يكون ساحةً لتصفية الحسابات بين إيران والولايات المتحدة.

لكن إيران المحاصرة دوليا، تستمر في انتهاك سيادة العراق ودفع مليشياتها لضرب المصالح العراقية والأمريكية والغربية واستخدام أرض العراق لمهاجمة الدول الإقليمية، وفي الوقت نفسه تتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وتستخدم وكلاءها لقتل وخطف الناشطين العراقيين، المناهضين للتبعية الإيرانية، المطالبين بدولة عصرية ديمقراطية، وتتحكم بكل شيء في العراق عبر وكلائها العلنيين والسريين.

فهل يمكن فعليا إقامة علاقات "طبيعية ومتوازنة" مع دولة كهذه؟ وهل يمكن أن يستمر العالم في دعم العراق في وقت تصمُتْ فيه الحكومة العراقية أزاء هذا الاستهتار الإيراني بمصالح العراق وسيادته؟ وتتردد في كشف القتلة والفاسدين وإحالتهم إلى القضاء؟ كيف يطمئن العالم إلى أن العراق دولة ساعية إلى الاستقرار وجادة في دعم السلم والاستقرار الإقليمييين والعالميين، إن كانت حكومتها صامتة أزاء الانتهاكات الإيرانية وعاجزة عن الدفاع عن مصالحها وحماية مواطنيها ومواردها المستباحة، وتطبيق قوانينها على أرضها؟

لا شك أن هناك رغبة دولية حقيقة لمساعدة العراق على تجاوز أزماته، خصوصا عند الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، ولكن كيف يمكن الدول الصديقة أن تساعد العراق بينما تتردد حكومتُه في مواجهة المليشيات المدعومة إيرانيا، التي جعلت من العراق بلدا فاقدا للأمن كليا، إذ لا يستطيع العراقي، ناهيك عن الأجنبي، أن يطمئن على حياته وماله؟

لم تتخذ الحكومة حتى الآن خطواتٍ جادةً واضحة لمكافحة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، والذي يلتهم مواردَها ويعطِّل الأعمالَ ويفاقم التدهورَ في كل المرافق العامة؟ نعم كانت هناك اعتقالات وملاحقات لمتهمين بالفساد، لكن رؤوس الفساد لم يُحاسَبوا، ولم يتهَموا حتى الآن. لم يُحاسَب أحد في حكومة عادل عبد المهدي التي فاقمت هذا الخراب الذي حل بالعراق، وسمحت للمليشيات بالسيطرة على مؤسسات الدولة، ولم يُحاسَب أيٌّ من المسؤولين الكبار من الحكومات السابقة. 

المؤسسات المالية الدولية، المرتبطة بالولايات المتحدة والدول الغربية عموما، تطالب بإجراءات حقيقة وسريعة لإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي، بحيث يكون اقتصادا حقيقيا وليس ريعيا يعتمد فقط على إيرادات النفط، ولن تقتنع بأن العراق يسعى فعلا لتفعيل القانون وترسيخ مبادئ الاقتصاد الحديث حتى ترى إجراءاتٍ واضحةً وفاعلة، لمكافحة الفساد السياسي تحديدا، الذي جعل من معظم العراقيين موظفين في الدولة، إذ قارب عدد الذين يتسلمون رواتب من الدولة 8 ملايين شخص، في بلد لا يتجاوز عدد نفوسه الأربعين مليونا، وحَوَّل القطاعَ الخاص إلى ماكنة للتهريب واستحصال العمولات ودفع الرشاوى.

وبالإضافة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد وترشيق عدد الموظفين وتشجيع القطاع الخاص واقتصار عمل الحكومة على التنظيم القانوني والهيكلي للاقتصاد والتدخل فقط عند حصول الأزمات، لإزالة التشوهات ودعم الفقراء والمحتاجين كي يتمكنوا من العيش كباقي أفراد الشعب، تطالب المؤسسات الدولية بتحقيق الأمن وتفعيل القانون وإقامة العدالة التي تعني ابتداء القبض على القتلة والخاطفين والسراق وتقديمهم للعدالة، خصوصا أولئك الذين مارسوا القنص والخطف ضد الشباب المحتجين، وهذا أهم مطلب لانتفاضة الشعب العراقي ضد الطبقة السياسية الفاسدة.

وعلى الرغم من تزايد الإصابات بفيروس كورونا، بسسب عدم الاستقرار الذي يعانيه البلد، وفشل الإجراءات الحكومية في كبح الجائحة وعدم التزام الناس بالتوجيهات الصحية، فإن الانتفاضة العراقية المطالِبة بإجراءات حقيقية لإصلاح النظام السياسي، مازالت مستمرة، وسوف تزداد قوة واتساعا إن ترددت الحكومة في الكشف عن القتلة والخاطفين ومحاسبتهم.

الجماعات السياسية الفاسدة في العراق تصر على وصف الاحتجاجات بأنها "مطلبية" والحقيقة أنها ليست مطلبية بل انتفاضة لإصلاح النظام السياسي الفاسد، الذي أفسد الاقتصاد ونشر الفساد في المجتمع، وزعزع ثقة الناس بالدولة، وأصاب مؤسساتها بالشلل. المحتجون، في الذكرى الأولى لانطلاق انتفاضتهم، واضحون جدا في مطاليبهم، وهي لا تتعلق فقط بتدهور الخدمات وتفاقم البطالة، التي هي نتيجة مباشرة لفشل الطبقة السياسية الحاكمة، وإنما تتعلق بفساد النظام السياسي الذي زوّر إرادة الشعب العراقي ونصَّب عليه مجموعة من اللصوص والقتلة التابعين لدولة معادية.

وفي الذكرى الأولى لإنطلاق الانتفاضة، يجدد المنتفضون مطالبتَهم وإصرارهم على تأسيس نظامٍ جديد ينتمي إلى العراق والعالم المتمدن، نظامٍ منسجمٍ مع المجتمع الدولي ودول العالم المتقدمة، نظامٍ يخدم العراقيين جميعا دون تمييز. يريدون نظاما يليق بحضارة العراق وتأريخه، يسودُ فيه القانون ويختفي فيه التزوير والخداع والدجل، ويغيب عنه الفاسدون إلى الأبد، ويشغل المواقع السياسية والإدارية فيه أكْفاء مخلصون وشجعان، نظاما يتوقف فيه نهبُ المال العام، ويقوم على مبدأ وضعِ الشخص المناسب في المكان المناسب، ولا وجود فيه للمتشدقين بالدين وأدعياء الفضيلة وهم أبعد ما يكونون عنهما، ولا تبعيةَ فيه لأيّ دولة، بل يكون الشعب العراقي وحده مصدر السلطات والقوانين.

إن القول إن الاحتجاجات "مطلبية" ليس بريئا، بل محاولة مقصودة من الفاسدين لذر الرماد في العيون والتصيد في الماء العكر وإيهام المحتجين وباقي العراقيين بأن اتخاذ إجراءات ترقيعية شكلية ومؤقتة يمكن أن يسكتهم ويبقي الفاسدين في مواقعهم. ليعلم الفاسدون بأن زمن التضليل والخداع قد ولى إلى غير رجعة وعليهم أن يتعظوا ويختفوا من حياة العراقيين الذين طالت معاناتهم بسببهم.

الخيارات العراقية واضحة، ولا يمكن الحكومة الانتقالية أن تؤجلَها أو تتهرب من اتخاذِ القرارات المُلحّة التي يحتاجها العراق، وعليها ألا تبقى تتمنى بأن المشكلة مع إيران ومليشياتِها يمكن أن تختفي دون اتخاذ إجراءات رادعة وحاسمة وسريعة ضد الجماعات المسلحة التي تدعمها إيران وتدفعها لزعزعة استقرار العراق والمنطقة. الادعاء بأن الجماعات المسلحة أقوى من الدولة لن يصدقه أحد، فلا يمكن أن تكون مجاميع مسلحة إجرامية ومنبوذة ومرفوضة عراقيا ودوليا، أقوى من العراق وشعبه المصمم على الخلاص من التبعية والفساد، خصوصا مع توفر الدعم الدولي والشعبي لضرب هذه الجماعات والقضاء عليها. مهادنة المسلحين الخارجين على القانون، ليس خيارا لائقا بأي حكومة، وإن لجأت إليه الحكومة الحالية، فإنها تخاطر بخسارة الدعم الدولي والتأييد الشعبي، وفي النهاية ستصبح أسيرة للمليشيات كما كانت حكومة عبد المهدي قبلها.

مصلحة العراق تكمن في توثيق العلاقات مع المجتمع الدولي والإقليمي، وإيران تقف على النقيض من المصلحة العراقية، بل تسعى لاستخدام العراق في حربها ضد دول المنطقة والمجتمع الدولي، الذي يطالبها، بالتوقف عن دعم الإرهاب وزعزعة استقرار الدول الإقليمية وتطوير أسلحة هجومية وصواريخ بعيدة المدى لاستخدامها ضد دول المنطقة، التي اضطرت إلى التسلح والدخول في تحالفات دولية لحماية مصالحها واستقلالها كنتيجة مباشرة للتهديدات الإيرانية.

لقد هددت الولايات المتحدة بإغلاق سفاراتها في بغداد والتعامل عسكريا مع القوى التي تهاجم قواتها ومصالحها، وواهمٌ كل الوهم من يستهين بقوة الولايات المتحدة أو عزمها على تنفيذ قراراتها وحماية مواطنيها ومصالحها. وواهمٌ من يظن بأن الولايات المتحدة وحيدة في هذا المسعى، بل أن كل حلفائها سيقفون معها. لقد اضطر العراق لأن يوسِّط الدول الأوروبية لإقناع الولايات المتحدة بالعدول عن هذا التهديد، بينما يفترض بالولايات المتحدة أن تكون حليفةٌ استراتيجية للعراق، بحسب الاتفاقيات الموقعة بينهما، لكن التحالف الأمريكي العراقي لم يرُق لإيران التي تناصب العراق العداء منذ الأزل، فعملت على تقويضه بحجج دينية وطائفية واهية، ودفعِ وكلائها لتخريب علاقات العراق الدولية، بعد أن سعت لتخريب علاقاته الوطنية. إيران تعلم بأن إقامة العراق علاقاتٍ مع الدول المتقدمة، ستجعل منه قوة إقليمية تساهم في ترسيخ والاستقرار والأمن في المنطقة، في وقت تسعى فيه إيران لأن تكون القوة الوحيدة المهيمنة على شعوب المنطقة ومقدراتها.

يبدو أن الاستراتيجية التي تتبعها الحكومة الانتقالية هي التهرب من تقديم الحلول، أو تأجيلها حاليا. تأجيل المواجهة مع الميليشيات وتأجيل التعامل بحزم مع إيران، وتأجيل الاستجابة لمطالب الشعب والمجتمع الدولي بردع المليشيات، والتحجج بأنها غير قادرة حاليا على حل المشكلة الأمنية، وأن لديها مشاكل أخرى أكثر إلحاحا، وهي توفير الأموال المطلوية لتسيير شؤون الدولة، وإجراء انتخابات مبكرة في 6 حزيران المقبل.

لكن كلتا المشكلتين لا يمكن حلهما عبر تأجيل اتخاذ القرارات المُلِّحة. فالمشكلة المالية تولدت نتيجة لسيطرة الجماعات المسلحة على موارد الدولة، سواء عبر توظيف أتباعها في وظائف وهمية، ونهب الإيرادات من المنافذ الحدودية، وتهريب النفط والعملة وتقاضي الرشاوى وممارسة الابتزاز وغيرها من الممارسات غير الأخلاقية وغير القانونية. لذلك فإن حل المشكلة المالية يبدأ بضرب الجماعات المسلحة ووكلائها الفاسدين عبر الاستخدام الفعال لأجهزة الدولة. وهذه فرصة أيضا لإخراج العناصر الفاسدة، التي تتردد في تأدية واجباتها، من أجهزة الدولة.

أما الانتخابات المبكرة، فهي الأخرى تفقد معناها وقيمتها إن بقيت الجماعات المسلحة ممسكة بسلاحها، وتهاجم السفارات والمعسكرات ودول الجوار، وتسيطر على الوزارات والمؤسسات، وتعبث بأمن الدولة وتُرهِب الناس وتقتل المعارضين وتخطف النساء والناشطين وتسجنهم وتعذبهم وتعتدي عليهم في سجون سرية، مستخدمةً إمكانياتِ الدولة وأسلحتَها وتسهيلاتِها. إضافة إلى ذلك، فإن هناك عقباتٍ حقيقيةً تعترض إجراءَ الانتخابات منها عدم إقرار قانون الانتخابات الجديد بسبب الخلافات حول عدد الدوائر الانتخابية وتعقيدات قانونية ودستورية أخرى، واستمرار الاعتراضات من الجماعات السياسية المختلفة على حدود الدوائر الانتخابية، وعدم اكتمال القدرات الإدارية لمفوضية الانتخابات واستمرار التشكيك السياسي بحياديتها.

وإن حُلَّت كل هذه المشاكل، فسوف تبقى العقبة الكبرى، وهي قانون المحكمة الاتحادية الذي ينص على انعقادها بكامل أعضائها التسعة، في حين أن المحكمة ناقصة حاليا بسبب تقاعد أو موت ثلاثة من أعضائها. وما لم يُعدَّل القانون، بحيث يسمح بانعقادها بعددٍ أقل من الأعضاء، فإنه لا يمكن إجراء الانتخابات فعليا، لأن المحكمة هي التي تصدِّق على النتائج، وهي التي تنظر في الطعون المقدمة من الأحزاب المشاركة فيها.

لا يمكن دول العالم أن تثق بالعراق إن لم تحقق الحكومة الأمن أولا، وتكافح الفساد ثانيا، وتفعِّل القانون ثالثا، بحيث يتمكن المستثمرون ورجال الأعمال، العراقيون والأجانب، من العمل في العراق، بإطمئنان كامل على حياتهم وأموالهم، وإن لم تضع الأكْفاء والمخلصين في المسؤولية، بدلا من أتْباع الجماعات الفاسدة، الذين جاءوا عبر المحاصصة والفساد والرشوة. الإجراءات الترقيعية التي اتخذتها الحكومة حتى الآن غير كافية وغير مقبولة، وهي لن ترضي الشعب العراقي ولا المجتمع الدولي. إهمال المشاكل التي تتطلب حلولا عاجلة سوف يزيدها تعقيدا، فإن شعرت الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران بأن الدولة، بكل إمكانياتها والدعم الدولي المتوفر لها، تخشى مواجهتها، فإنها سوف تتمادى أكثر في العبث بالأمن والاقتصاد والمجتمع.