لن تكون الانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في جمهورية شمال قبرص، الاثنين المقبل، مجرد حدث سياسي داخلي، بل ستكون نتيجتها بمثابة حُكم أولي على المستقبل السياسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

فمستوى التداخل بين جمهورية شمال قبرص وتركيا، كون الأخيرة هي التي أحدثت هذه الجمهورية عبر عملية احتلال عسكرية جرت عام 1974، وباعتبارها الدولة الوحيدة التي تعترف بهذه الجمهورية.

وما أضيف لذلك خلال السنوات الخمسة الأخيرة، عبر التدخل التفصيلي في الحياة السياسية والاقتصادية الذي تمارسه سلطة الرئيس أردوغان في شؤون دولة شمال قبرص، حتى أن هذه الدولة صارت شبه شأن داخلي تركي، مع حيز بسيط من الاستقلالية التي تسعى سلطة أردوغان لقضمها بالتقادم. 

لكن هذه الانتخابات القبرصية الرئاسية ستكون استثنائية للغاية، لأن الانقسام والتنافس السياسي بشأنها يطابق الانشقاق السياسي في الداخل التركي، المتمركز بالأساس هو مستقبل النظام السلطوي الذي يحاول الرئيس أردوغان تشييده وتكريسه حول شخصه وعائلته وحزبه الحاكم.

فالمرشحان والمتنافسان الرئيسيان في هذه الانتخابات، الرئيس الحالي مصطفى أكينجي ومنافسه رئيس الوزراء أرسين تتار يمثلان ذلك الفصام السياسي التركي الداخلي، وهو أمر لا يخفيانه.

وحتى أردوغان نفسه يعتبر صراحة أن تتار هو بمثابة مرشحه المباشر، لإنهاء حُكم أكينجي، المناهض الحازم والدائم لتوجهات أردوغان السياسية، حتى داخل تركيا، من حيث كونها سياسات قومية شعبوية تنزاح للعنف والتدخلات الخارجية، وطبعاً في علاقته مع جمهورية شمال قبرص، من خلال تحويلها إلى مجرد تابع سياسي دون وزن، وبالتالي إمكانية غرقها في المغامرات الأردوغانية.

ينزاح أكينجي لإضفاء مزيد من الاستقلالية السياسية والرمزية لدولة شمال قبرص عن النفوذ التركي، وهو يغري القبارصة الأتراك الشماليين في برنامجه الأنتخابي بأن التفاوض السياسي الصريح مع نظرائهم القبارصة اليونانيين لإعادة توحيد الجزيرة من جديد.

وبالتالي دمقرطة الجزيرة القبرصية الموحدة وإدخالها في الفضاء الأوربي، هو ما سيحدث أفقاً سياسياً واقتصادياً وروحياً لأبناء الجزيرة. خيار أكينجي هذا متأت من خلفيته كشخص مؤمن بمنظومة حقوق الإنسان والقضايا البيئية والمساواة الجندرية، المناهضة للمحافظة السياسية الشمولية الشعبوية التي يمثلها أردوغان.

على العكس تماماً، فإن المرشح ورئيس الوزراء الحالي أرسين تتار يميل لرفع مستويات الخطابات القومية الشعبوية، التي تُخيف القبارصة الأتراك من أية استقلالية، ولو نسبية، عن السياسات الخارجية التركية، حتى أكثرها تهوراً.

يرى تتار من خلال حملته الانتخابية بأن جمهورية شمال قبرص يجب أن تكون بمثابة رأس الحربة لسياسات أردوغان الأوربية، بالذات فيما يتعلق بشرق المتوسط، لأن ذلك سيفرض توازناً متخيلاً مع القبارصة اليونانيين.

وتتار مستعد في سبيل ذلك فعل كل شيء، مثل اتخاذ قرارات حكومية بإعادة فتح سواحل مدينة فاروشا القبرصية الشمالية، وهو ما يُعتبر مساً بأساس مفاوضات السلام على مستقبل الجزيرة، لكنه مستعد لاتخاذ سياسات شعبوية شبيهة بما يتخذه أردوغان بين فينة وأخرى، بغية جذب انتباه القواعد الاجتماعية القومية في البلاد. كذلك فأن تتار مستعد وينفذ قرارات حكومية وإدارية حسب تعليمات أردوغان بشكل مباشر، وكأنه سلطة حُكم البلاد.

يبدو ذلك الانقسام مطابقاً تماماً لما تشهده تركيا من انقسام متمركز حول أردوغان وسياساته. إذ ثمة التيار السياسي الذي يمثل أردوغان وحلفائه من الحركة القومية التركية المتطرفة، بقيادة دولت بهجلي، الذين يسعون لتكريس سلطة الرجل والحزب الواحد، ورفع سوية النزعة القومية في داخل تركيا، وكذلك التدخل العنيف في مختلف الملفات الخارجية، من أذربيجان إلى ليبيا، مروراً بسوريا والعراق وشرق المتوسط.

بناء على تلك الخيارات، فإن أردوغان يصنف ويتعامل مع كل الأطراف السياسية، داخلياً وخارجياً، وبالذات مع دولة شديدة الارتباط بتركيا، مثل دولة شمال قبرص.

على النقيض تماماً، فإن قوى المعارضة التركية، وبكل ما بينها من خلافات داخلية، فهي مجمعة بأن أردوغان وسياساته تشكل خطراً ماحقاً لحاضر ومستقبل تركيا. فحزب الشعب الجمهوري "الأتاتوركي" وحزب الشعوب الديمقراطية "المؤيد للأكراد"، ومعهم مئات التشكيلات والطبقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التركية، يعتبرون بأن سياسات أردوغان لا أفق لها، وأن عودة تركيا كقوة ودولة اعتيادية، في داخلها أو محيطها الجيوسياسي، لا يمكن لها أن تحدث، إلا من خلال المزيد من الحريات العامة والارتباط الروحي والسياسي والثقافي مع الفضاء الأوروبي.

بمعنى ما، فإن المرشح القبرصي أكينجي، بما يمثله من قيم وخيارات وخطابات وبرنامج سياسي، إنما تشكل تعبيراً مباشراً على توجهات هذه المعارضة التركية الجذرية لسياسيات أردوغان.

ليس من مؤشرات واضحة على أي من المرشحين سوف يفوز في هذه الانتخابات، لكن المشهد في جمهورية شمال قبرص يبدو وكأنه بشكل ما استفتاء على توجهات أردوغان السياسية، سواء في داخل تركيا أو في محيطها السياسي.

ففي حال فوز أكينجي، فإن المفاوضات بين شطري جزيرة قبرص سوف تتواصل، وبالتالي لن يتمكن أردوغان من مواصلة ابتزاز القوى الأوربية في ملف شرق المتوسط وإثارة صراع وظيفي بينها وبين قبرص اليونانية.

أما فيما لو فاز مرشح أردوغان تتار، فإن قبرص ستغدو ملفاً ملتهباً، مثل ليبيا وأذربيجان وغيرها من المناطق، حي تندلع الحروب لصالح أردوغان وتوجهاته، وليس لصالح شعوب تلك المناطق.