الأمّة التي تتهاون مع أساطيرها، فتستودعها النسيان، إنّما تخاطر بدفن ماضيها، بدقّ آخر مسمار في نعش تاريخها.

ففي مجاهل الميثولوجيا يسكن تاريخ. تاريخ مجيد وعريق؛ كل ما هنالك أنه منسيّ. وأن يكون منسيّاً هو ما يهبه القيمة الاستثنائية، لأنه بالنسيان يستعير هوية الكنز، كما يليق بكل لقية دفينة. والكنز المشحون بالذخيرة الروحية، كما الحال مع تاريخ ما قبل التاريخ، يغدو أنفس بما لا يقاس من الكنز في بُعده الحرفيّ، بدليل أن عالم الآثار لا يعامل اللقية الذهبية، المستخرجة من قيعان الأطلال، كعملة نفعيّة، ولكنه يستنزل فيها قيمة لا تقدّر بثمن، بسبب هويّتها كرسالة ناطقة باسم واقعٍ ميثولوجي فانٍ. فهي إلى جانب دلالاتها، كقطعة أثريّة، تدلي بخطاب. ليس الخطاب الجماليّ، الشعري، الذي ترطن به كل لقية وحسب، ولكن خطاب الوجود المنسيّ.

وأن نقول المنسيّ هنا فإنما نعني أنه الخطاب الذي يكاد ينطق بلسان البُعد الغيبيّ. لأن كل منسيّ يستعير سيماء غيابية، سيماء قدسية، يكفي أنه مبعوث من رحم فناء. ولذلك المنسيّ سليل غياب، ولذا فهو الجدير بأن يعتلي منزلة شاهد العيان على قيامة. أي أنه رسول عدم. وفيه وحده نستطيع أن نقرأ برهان الأبدية، نقرأ وصيّة الغيوب، فيما إذا أحسنّا استنطاقه كما ينبغي. والأسطورة وحدها تستطيع أن تلعب في تجربتنا الوجودية هذه البطولة. وهي وحدها أهلاً لأن تنجدنا، في حمّى بحثنا المحموم، عن الحقيقة الضائعة: حقيقة الثروات المنسيّة، حقيقة فحوى الزمن المفقود، السابقة حتى على تاريخ ما قبل التاريخ. وليس مصادفةً أن تطلق لغة تنتمي إلى زمن التكوين، كلغة أهل الصحراء الكبرى، على الأسطورة اسم "إيمَيّان"، الدالة في الترجمة على المنسيّ، في صيغة الجمع، أي المنسيّات!

"ليس الخطاب الجماليّ، الشعري، الذي ترطن به كل لقية وحسب، ولكن خطاب الوجود المنسيّ. وأن نقول المنسيّ هنا فإنما نعني أنه الخطاب الذي يكاد ينطق بلسان البُعد الغيبيّ"

 والتحدّي بالطبع يسكن مدى قدرتنا على القراءة: قراءة الشفرات. فالتشفير هو لعبة الأسطورة المفضّلة. وهي حيلة لم تولد مصادفة، لأن الأوائل ملّة مهووسة بالأحجية. ولذا تستهويها الإشارة. تستهويها الاستعارة بسبب هيام فطريّ بالشعر، وبكل ما متّ بصلة للحجاب، للتَّوْرِية، للاحتيال على الحرف الميّت، ليقينٍ عفويّ بأنه إذا كان الحرف ميّتاً، فلن يعدم الموهبة في أن يُميت. وعلّ البرهان يتحفنا به مصطلح، غدا في أدبيّاتنا تعويذةً مكرورة، كالحال مع "الأقوال المأثورة". أقوال تحوّلت، بمرور الزمن، وصايا نفيسة، بسبب انتمائها إلى ماضٍ، كلّ رصيده، كل مؤهّلاته، شهادة حسن سلوك استصدرتها في حقّه الأسطورة: الأسطورة بما هي احتيال على ورم الذاكرة، المدعو في لغتنا نسياناً. لأن مأساة الوجود في اعتماده على ذاكرة نسى أنها، مثل كل شيء، تشيخ. شيخوخة الذاكرة، في حربها الفتّاكة مع شبح القِدمة، أوجَدَ الآفة التي خلعنا عليها لقب "الخرف": خرفٌ هو هذيان من إنتاج ذاكرة معطوبة كالشيخوخة. من هذه المفردة البريئة إستعرنا مصطلحاً خطيراً سوّقناه خطأ كبديل للأسطورة، وهو: الخرافة!

فسوء الفهم الشنيع، الذي اعتمدناه في ثقافتنا منهجاً، هو الذي أباح للخرافة أن تكون للأسطورة، في مفاهيمنا، رديفاً، كتعبير حرفيّ من إنتاج هذا المأزق الذي أدّى إلى الحطّ من قَدَر الأسطورة، لتغترب عن واقعنا كشاهد وحيد على ماضٍ عصيّ، سقط من ذاكرة التاريخ، كل شقوته تكمن في ولعه بالأحاجي التي تكلّفنا اجتهاداً مضنياً لتفكيك بنيتها التركيبيّة.

فالحكم على الأسطورة، بوصفها تجديفاً هذيانياً من شيَم الخرف، ووصمها لهذا السبب بهويّة الخرافة، أفضى إلى إقصاء الأسطورة من خارطة وجودنا الروحيّ، كما الدنيوي، لنحرم أنفسنا من خزنة ثرية ورثناها عن السلف بالمجّان. وقدرتنا على استعادة فردوسنا الضائع، من جناب زمننا الضائع، إنّما هو رهين مدى استعدادنا لاستجواب ذخيرة هذه الخزنة، حيث يرابط المنسيّ الميثولوجيّ واجماً، مكابراً، موحياً بتكتّمه على الوديعة الخبيئة التي تستدرجنا لمعاندة طلسمها.

"التشفير هو لعبة الأسطورة المفضّلة. وهي حيلة لم تولد مصادفة، لأن الأوائل ملّة مهووسة بالأحجية"

والواقع أن الأسطورة في تجربتنا سلطة حاسمة، بدليل شغفنا بأسطرة كل شيء حولنا، بدايةً بممتلكاتنا، ونهايةً بحياتنا نفسها، مما يعني أن الأسطورة غنيمة تحيا فينا، وتسكننا عميقاً، فلا نملك إلاّ أن نستجيب على نحوٍ مّا للإغواء. يحدث هذا رغم أنف الحجج التي تحاول أن تقطع دابرها من حياتنا، فتزاوج بينها وبين هذيان أشياخٍ بلغوا من العمر عتيّاً لتلصق بالأسطورة تهمة الانتماء إلى جنس الخرافة اشتقاقاً من الخرف.

أما الدليل على حقيقة الأسطورة كرهان مرجعيّ في كل ما له علاقة بوجودنا الإنساني، فيتحفنا به أفلاطون عندما تغنَّى، على لسان بطل ملحمته سقراط، محرّضاً على وجوب التشبّث بتلابيب تاسوع ربّات الفنون اللائي اعتنقن دين الأسطورة، كبديل عن الفلسفة التي استهوته، ليجد نفسه ضحيّة لها في النهاية.

ومن الطبيعي أن يرث معلّمنا الأول (أرسطو)، عن معلّمه الأول (أفلاطون)، هذه الحُجّة، لتصبح عصباً في فتوحاته عن الروح الشعرية، منصّباً الأسطورة كغاية أيّ إبداع.

وعلّ مفارقة أن تكون الأمّة التي يرجع لها الفضل في إنقاذ إنجيل أرسطو هذا عن الشعرية، من خلال نقلها إلى اللغة العربية عن اليونانية القديمة، قبل ضياعها في اللغة الأصلية، فإذا بالمخلّص يتنكّر لهذا الفضل، فينفي الأسطورة من واقعه الثقافي بدعوى انتمائها إلى مجاهل الجاهلية!

"إن الأسطورة في تجربتنا سلطة حاسمة، بدليل شغفنا بأسطرة كل شيء حولنا، بدايةً بممتلكاتنا، ونهايةً بحياتنا نفسها، مما يعني أن الأسطورة غنيمة تحيا فينا، وتسكننا عميقاً"

 وهو موقف لم يقتصر على الأسطورة كمبدأ يتنكّب أحمالاً دينية أيضاً، إلى جانب أحماله التاريخية، ولكنه موقف لم يتردّد في أن يجاهر بعدائه لذخائر التراث التقليدي الثريّ، المفطور على شغفٍ ميثولوجي، هو بالأساس شهادة وفاء في سيرة كل نموذجٍ برّي. بل هو هوية في مسيرة النموذج البرّي، الصحراوي تحديداً.

هذه النزعة القمعيّة في حقّ الإرث الميثولوجي، لم تكتفِ بتغريب الاعتراف بالأسطورة وحسب، ولكنها قتلت روح الأسطرة في واقع الإبداع العربي، بما في ذلك طليعة هذا الواقع في المستوى الحداثي، لتتسبّب في إجهاض هذا الواقع، بدقّ المسمار في نعش مستقبل واقع هذا الإبداع أيضاً، لأن معالجة أسئلة الوجود الإنساني باستثمار روح الأسطورة رهان، وليس ترفاً.

فالأسطورة، عندما تُنسى، لا تتبخّر من خزنة الذاكرة، ولكنها تستجير، بما نسمّيه نسياناً، هوية التميمة السحرية في ثقافة أية أمّة أهليّة. فهي لا تغترب عن واقع العقلية التقليدية، ولكنها تتوارى. تحتال لتتوارى من مجال التداول، لتنكمش على نفسها متّخذةً مما نسميه نسياناً حصناً. ولهذا تنتحل التميمة السحرية في العربية اسم: الحصن، ثم اسم: الحجاب. أي الطلسمان المحفوظ في لفافات جلديّة، مغلّفة بصفائح ملفّقة من معادن النحاس أو الفضّة أو حتى الذهب، إمعاناً في صونها من الضياع، دون أن يخطر ببال القوم أن المغالاة في نفي اللقية من واقع التداول، إنّما هو إصرارٌ على محو أثر اللقية، وتيسير لاستيداعها الضياع.

ومصير الأسطورة قرين لمصير التميمة؛ لأن الأسطورة لم تكن في واقع الأمّة سوى التميمة، والدور الذي تلعبه في تجربة الأمّة هو الدور ذاته الذي تلعبه التميمة السحرية. ففي الوقت الذي يحتكم فيه الإنسان إلى التميمة لمداواة أمراضه النفسية، بل والحسيّة، تقوم الأسطورة بتأمين الترياق لعلله الروحيّة، بل والوجودية، عندما تلعب دور قرون الاستشعار في تأويل الخلاص من ضلال كان في بداية العهد بالكينونة قدر الزمان.

"لهذا السبب فإن الأسطورة لا تغترب من الذاكرة بالنسيان، ولكن كل ما تفعله هو استبدال ذاكرة الحسّ، بذاكرة الحدس"

 ولهذا السبب فإن الأسطورة لا تغترب من الذاكرة بالنسيان، ولكن كل ما تفعله هو استبدال ذاكرة الحسّ، بذاكرة الحدس.

تغترب عن واقع الذاكرة الحرفية، لتسكن واقع الذاكرة الحدَسية. في هذه القيعان تنتظر أجيالاً قبل أن تبعث نفسها فينا، لتحيا تجربة ميلادها الثاني. تتمرّد على جلّاد النسيان، لتستعير في واقعنا حضوراً، مترجماً في لقية معرفيّة، مبرهنةً كم هي عنقاء مغرب، التي قد تغترب، ولكن طبيعتها تأبى إلاّ أن تبعث نفسها، من رمادها يوماً، لتلقّننا الدرس في الخلود.