بسبب الممارسات العثمانية العنصرية، اضطر الأرمن لمخاطبة الرأي العام الدولي للضغط على السلطات العثمانية وإلزامها بتنفيذ الإصلاحات التي سبق أن وعدت بها.

وبعد تجاهل طويل، وجدت روسيا في المسألة الأرمنية الذريعة للتدخل في الشان العثماني، خاصة وأن بين الرعايا الروس فئة أرمنية أرادت روسيا مغازلتها من خلال دعمها المطالب الأرمنية، بل ولقد طمعت روسيا في أن تستقطب أرمن الدولة العثمانية لصالحها.

في البداية وافقت الدولة العثمانية على المشروع وتظاهرت بالبدء في تنفيذه على مضض، مع استمرار إشاعة المشاعر العدائية للأرمن بتهمة أنهم يسعون للسماح للدول الأجنبية بالتدخل في الشأن العثماني (وكأن العثمانيين لم يكونوا هم أنفسهم يسمحون بذلك منذ منح سليمان القانوني الامتيازات الأجنبية لفرنسا)

وجاءت الحرب العالمية الأولى (الحرب العُظمى) لتصيب الضبع العثماني بالسُعار وتتيح له الفرصة لمزيد من الجرائم بحق الأرمن الذين كان عددهم آنذاك يتراوح بين المليون ومئتي ألف والمليونان!

-الحرب العُظمى:
قبيل دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد روسيا وحلفاءها، سعى العثمانيون لمداهنة الأرمن فعرضوا على زعماء حركتهم الوطنية صفقة: أن يتواصل الأرمن العثمانيون مع الأرمن الروس ويحرضونهم على الثورة بحيث تستغل القوات العثمانية ذلك للدخول للأراضي الأرمينية الواقعة داخل حدود روسيا.. والمقابل: إقامة دولة أرمينية مستقلة تضم أرمينيا الروسية (أرمينيا الشرقية) وولايات أرمينية عثمانية (أرمينيا الغربية).

رفض الأرمن الاقتراح ولكنهم أكدوا للسلطات العثمانية أنهم إذا دخلت الدولة الحرب فسيقومون بواجبهم الوطني في المشاركة في القتال لصالحها كأي مواطن عثماني مخلص.

استغلت السلطة ذلك الرفض وراحت تروج للشائعات المشككة في ولاء الأرمن للدولة العثمانية، وراح العثمانيون ينشرون تلك الأكاذيب بين صفوف مقاتلي الجيش وبين المواطنين.. بل واتهموا الأرمن بالاستعداد للثورة ضد الدولة إذا قامت الحرب، وهو ما يصنف بطبيعة الحال كخيانة عُظمى!

وفي نوفمبر 1914م دخلت الدولة العثمانية الحرب رسميًا إلى جانب ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر ومملكة بلغاريا ضد روسيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا.

وفورًا سارع زعماء الأرمن المدنيين والدينيين بإطلاق النداء بين بني جلدتهم بالمسارعة للانضمام للقوات العثمانية وحمل السلاح للدفاع عن الوطن.. وتقدم لمراكز التعبئة 60000 أرميني..

صحيح أن مشاعر بعضهم تجاه الدولة لم تكن على ما يرام بعد ما ذاقوا من اضطهاد وتخوين وجرائم على يديها، وصحيح أن بعضهم قد حاول الفرار من المعسكرات، ولكن الأرمن العثمانيون في مجملهم قد تقدموا وأظهروا الإخلاص للدولة في الدفاع عنها ضد عدوها...

بل أن بينما تطوع أرمن روسيا لإرشاد القوات الروسية عبر الجبال الحدودية مع المنطقة الأرمينية العثمانية، رفض الأرمن العثمانيون أن يفعلوا المثل.. فماذا كان جزاءهم؟

كان جزاءهم-على طريقة مفهوم العثمانيين عن الوفاء-هو المزيد من الشائعات حول خيانتهم بل واتهامهم بأنهم يتخابرون مع روسيا ويتلقون منها السلاح للغدر بالعثمانيين!

-الفشل العثماني وكبش الفداء الأرميني:

استعدت القوات العثمانية- بقيادة أنور باشا وزير الحربية- للقيام بعملية واسعة ضد روسيا في القوقاز الذي كان العثمانيون يطمعون في احتلاله، وبالفعل تقدمت قواتهم ولكن أنور باشا كان يجيد بناء قصور الوهم ولا يجيد التخطيط، فلم يحسب حساب الشتاء القوقازي القاسي الذي بلغت درجات حرارته 20 درجة تحت الصفر، ولم يحسب حساب الاحتياج للمؤن والمعدات اللازمة للغزو في البيئة الثلجية.. فكانت النتيجة هي كارثة محققة للجيش العثماني الذي راح جنوده يتساقطون بالأمراض أو بالصقيع حتى انسحبوا يجرون أذيال الخيبة في يناير وفبراير 1915م..

بالتوازي مع ذلك فشل العثمانيون في غزو مصر-المحتلة بريطانيًا آنذاك-وفشلوا كذلك في حماية عاصمتهم التي هددها الروس.
 
بدا الوضع كارثيًا منذرًا بالثورة الشعبية ضد القيادة الفاشلة، فكان لا بد من البحث عن كبش فداء يتحمل جريرة الهزيمة.. وسرعان ما قفزت الفكرة الشيطانية إلى العقول العثمانية المريضة: الأرمن.

وراحت الأبواق العثمانية تردد: الأرمن هم السبب.. الأرمن مسئولون عن الهزيمة.. الأرمن هم الخونة.. الأرمن عملاء للروس ولم يتعاطفوا بما يكفي مع الدولة.

بل بلغ بالعثمانيون الأمر أن أشاعوا أن الخبازين الأرمن يسممون الخبز وأن الفلاحين الأرمن يساعدون الأسرى الروس على الفرار.. واندلعت أعمال العنف ضد الأرمن من سلب ونهب وإحراق وتدمير للبيوت والمتاجر.. وفورًا أمرت الدولة بنزع
سلاح الجنود الأرمن في الجيش والشرطة وإجبارهم على العمل بالسُخرة كعمال طرق أو حمالين.. وتم طرد الموظفين الأرمن من الحكومة العثمانية، بل ومنع سائر الأرمن من التنقل بين الولايات أسوة بأي رعايا عثمانيين.

وفي فبراير 1915م كان العثمانيون قد عقدوا العزم على توجيه الضربة القاضية.. فراحت الأوامر تُرسَل شفهيًا وعبر البرقيات للضباط والولاة العثمانيين في المناطق الأرمنية، وكذلك لقوات الدَرَك والميليشيات الموالية للسلطة العثمانية بل ولعصابات البلطجية والقبضايات.. بأن الوقت قد حان لتنفيذ خطة الإبادة الكاملة!

-يتبع-