مرت في يوليو الماضي الذكرى الخامسة على الاتفاق النووي الإيراني وقرار الأمم المتحدة رقم 2231 الذي أيد الاتفاق المعقود بين إيران من جهة، وست دول كبرى هي الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق النووي في مايو 2018، قائلة إنه لا يفي بالغرض لأنه لم يتعامل مع المشكلة الأساسية وهي أن إيران دولة راعية للإرهاب وتمتلك صواريخ بالستية تهدد العديد من دول المنطقة، وأن الاتفاق كان يجب أن يكون أكثر شمولا وصرامة وإن الرئيس السابق باراك أوباما كان متساهلا مع إيران.
حاول الأوربيون إقناع الولايات المتحدة بالعدول عن الانسحاب، لكن إدارة الرئيس دونالد ترامب كانت عازمة على التعامل مع المشكلة الإيرانية بحزم، كي تزيل شبح الخطر الإيراني كليا عن المنطقة والعالم.
في العشرين من أوغسطس الماضي، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، مجلس الأمن الدولي بأن الولايات المتحدة سوف تعيد فرض العقوبات الأممية (سناب باك) على إيران المنصوص عليها في الاتفاق والقرار الأممي بعد شهر من ذلك التأريخ، وهي العقوبات التي تحظر بيع السلاح لإيران، والتي من المقرر أن ترفع في الثامن عشر من أكتوبر 2020.
باقي الدول الموقعة على الاتفاق النووي رفضت القرار الأمريكي، قائلة إن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق ولا يحق لها أن تفرض عقوبات باسم الأمم المتحدة. ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، (E3)، أصدرت بيانا مشتركا يؤكد عدم قانونية القرار الأمريكي باعتبار أن واشنطن منسحبة من الاتفاق.
الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قال إن العقوبات التي تعتزم الولايات المتحدة فرضها لا يمكن أن تكون أممية بسبب اعتراض دول أخرى عليها، لكنه لم يقل إنها غير قانونية لأن هذا الأمر متروك لجهة قانونية أممية ذات اختصاص. القرار 2231 لم يتعامل مع انسحاب أي من الدول الموقعة على الاتفاق، لذلك فإن ادعاء الولايات المتحدة بأن من حقها أن تفرض العقوبات باسم الأمم المتحدة ليس محسوما من الناحية القانونية، لأنها واشنطن موقعة على الاتفاق وكانت جزءا منه لثلاث سنوات تقريبا.
إيران ردت بالقول إن الولايات المتحدة (معزولة دوليا)! حسب تصريح وزير الخارجية جواد ظريف، و(متعبة لا تستطيع مواجهة إيران على الأرض)! حسب تصريحات الجنرال حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، الذي هدد بـ(حرق جميع القواعد الأمريكية في الخليج)!
وبغض النظر إن كانت الولايات المتحدة محقة في هذا الإجراء أم لا، لكن النظام الإيراني لم يتعلم الدروس خلال أكثر من أربعة عقود في الحكم، فمازال يستخدم التهديد والوعيد وكأنه قادر على مواجهة الدول العظمى، بينما ترزح إيران تحت عقوبات قاصمة للظهر منذ أربعة عقود، واشتدت عليها منذ عامين ونصف تقريبا عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات عليها وعلى من يتعامل معها من الدول الأخرى.
لم يتعب النظام الإيراني من الحروب والتدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، وإثارة البلبلة والقلاقل والفتن وتهديد الدول المجاورة وتبديد ثروة إيران على المليشيات والتضليل والابتزاز وممارسة نشاطات لا تتعلق بمصلحة دولة إيران ولا شعوبها. وخلال أربعين عاما من الحكم، تحولت إيران إلى دولة منبوذة إقليميا ودوليا، فلا توجد دولة واحدة في المنطقة تثق بها أو تطمئن إليها، لذلك احتاجت دول المنطقة جميعا إلى التسلح والتحالف في ما بينها ومع دول أخرى لحماية أنفسها من إيران وتدخلاتها.
وخلال أربعين عاما، أصبحت إيران دولة تعج بالفقراء بدلا من أن تكون دولة غنية قوية تسعى لخير المنطقة وشعوبها وتخدم مواطنيها وتقدم لهم الخدمات الأساسية. يتوهم قادة إيران، أو يحاولون أن يوهموا الآخرين، بأنهم أقوياء وقادرون على إلحاق الهزيمة بالدول الأخرى. ولو افترضنا أنهم قادرون على ذلك، وفرض المحال ليس محالا، فما هي مصلحة شعوب إيران في إيذاء الدول والشعوب الأخرى (والانتصار) عليها؟
العقوبات سوف تتجدد على إيران، سواء كانت أممية أم أمريكية، فالولايات المتحدة قادرة على تفعيل العقوبات لأنها أقوى اقتصاد في العالم تهيمن على النظام المالي الدولي، ولا تستطيع أي دولة أن تتجاهل العقوبات التي تفرضها والقوانين التي تسنها. الدول الأوروبية لن تتخلى عن تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة من أجل إيران، حتى وإن حاولت ثني واشنطن عن فرض العقوبات. فالمنافع التي تحصل عليها دول أوروبا من عقود إيرانية صغيرة أو كبيرة لن تكون مجزية إن هي اصطدمت بقوة الولايات المتحدة المالية والاقتصادية الهائلة.
الإدارة الأمريكية الحالية تحديدا، مصممة على منع تمدد إيران وتهديدها لدول المنطقة، حتى وإن تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية. وحتى لو فاز المرشح الديمقراطي، جوزيف بايدن، في انتخابات الرئاسة الأمريكية، فإنه لن يكون صديقا لإيران ولن يزيل العقوبات التي فرضها سلفه عليها بسهولة، ولا ننسى أن إيران ثقفت أجيالها على كره الولايات المتحدة وسمتها (الشيطان الأكبر) وأصبح شعارها السائد هو (الموت لأمريكا)، لذلك لا يتوقع أحد أن تتعاون واشنطن مع دولة بنت (مجدها) على كره أمريكا وتأليب شعوب المنطقة عليها.
روسيا، المتحالفة مع إيران في سوريا، يهمها توطيد علاقاتها مع أوروبا وهي تحرص على الانسجام داخلها وزيادة التبادل التجاري معها، وإن كانت الآن تمر في فترة حرجة في علاقاتها مع ألمانيا، التي أججها تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، فهي تسعى لأن تكون شريكا تجاريا للدول الغنية، وفي مقدمتها أمريكا، وسوف تتجنب مخالفة القوانين الأمريكية، ولن تضحي بمصالحها من أجل إيران. روسيا برهنت على أنها دولة براغماتية ومصالحها الطويلة الأمد تتقدم على تحالفاتها المرحلية، وهي مستعدة للتخلي عن نظام بشار الأسد أيضا إن تطلبت المصلحة الروسية ذلك.
الصين لديها مشاكل عديدة مع الولايات المتحدة حاليا، وقد تضررت كثيرا من العقوبات والتعرفات العالية التي فرضتها الإدارة الأمريكية الحالية عليها، وهي تحاول جاهدة أن تجد لها حلولا لأنها تعرف جيدا أن تقدمها سيكون بطيئا جدا، إن بقيت خلافاتها مع واشنطن قائمة، فلم تتقدم خلال نصف القرن الماضي إلا بالتعاون مع الولايات المتحدة، وهي بالتأكيد لن تخاطر بإزعاج الأمريكيين من أجل مساعدة إيران! الدول العربية والإسلامية لا تثق بإيران ولن تتعامل معها إلا ضمن الحدود الدنيا، خصوصا إذا كان ذلك التعامل سيعود عليها بالعقوبات والصعوبات الاقتصادية والسياسية وتهم الإرهاب وانعدام الاستقرار.
الشعوب التي تدخلت فيها إيران حتى الآن، ودمرتها وأساءت لها، تشعر بسخط تجاهها وهي مصممة على الخلاص من نفوذها. الشعب العراقي في حالة انتفاضة مستمرة منذ العام الماضي على تدخلات إيران في شؤونه الداخلية وتحكم ميليشياتها بحياته وحريته وثرواته، وقد بدأ الآن يتخلص منها شيئا فشيئا، وتبعه الشعب اللبناني أيضا الذي أوصلته الحروب والتدخلات الأجنبية، وفي مقدمتها تدخلات إيران وأتباعها وحلفائها، إلى حافة الهاوية. شعبا سوريا واليمن يعانيان منذ سنوات، لكنهما سوف يتخلصان إن عاجلا أو آجلا من إيران وتدخلاتها. شعوب إيران ليست راضية عن سياسات حكامها وهي في حالة انتفاضة شبه دائمة، تشتد عند الأزمات الداخلية وتخفت في الأزمات الخارجية. شعب إيران يستحق نظاما عصريا ديمقراطيا يسعى لخدمة المواطنين ولا يفرض عليهم قوانين بالية وقيودا ما أنزل الله بها من سلطان ويبدد ثرواتهم في حروب وتدخلات خارجية تجلب عليهم المصاعب والعقوبات الدولية.
آن الأوان أن تكون هناك مراجعة إيرانية حقيقية في ضوء الفشل والكوارث الاقتصادية والإنسانية التي سببتها سياسات النظام الحالي، من أجل وضع حد لمعاناة شعوب إيران أولا، وشعوب المنطقة والمجتمع الدولي ثانيا. ما تحتاجه إيران هو التوقف بصدق وجد عن التدخل في شؤون الدول الأخرى، وتتخلى عن الجماعات الأيديولوجية المهدوية المسلحة التي شكلتها تحت ذرائع واهية، فهذا تدخل عسكري تدينه القوانين والمواثيق الدولية ولن ترضى به شعوب المنطقة. سيقول النظام الإيراني إنه لا يتدخل وإن هذه الجماعات تشكلت في دول أخرى من تلقاء أنفسها، ولكنه يعلم، كما الجميع يعلمون، بأنه يفعل ويتدخل ويمول ويسلح ويدرب ويستغل ويستثمر في خلق جماعات متطرفة تأتمر بأمر الولي الفقيه وجنرالاته وتعبث بأمن البلدان التي تنتمي إليها. لن تتمكن إيران، مهما فعلت، أن تهيمن على المنطقة بسياسات عدائية وغير منطقية وغير عملية أو علمية. العالم فهم اللعبة، وعلى الإيرانيين أيضا أن يعوا أنهم وصلوا إلى نهاية الطريق، وأن الحل يكمن في العمل داخل حدود بلدهم الرسمية، من أجل خدمة مواطني إيران جميعا، دون تمييز على أسس ولائية أو قومية أو مذهبية.