كم ابتذلت وسائل إعلامنا حقيقة الهبة التي أطلقت عليها "الصناعات التقليدية"، لأن رسالة الإعلام لم تكن يوماً معنية بتسمية الأسماء بأسمائها الحقيقية، ولكن لتزوير فحواها، بسبب سوء استخدام اللغة، واحتراف النزعة الحرفية في صياغاتها التعبيرية، بحيث يلعب التكرار دور البهلوان الذي يروّج لسلعةٍ مشبوهةٍ، لا تلبث أن تتحوّل بالتلقين أفيوناً يُميت الروح في اللغة.

فالواقع أن هذه المقتنيات التي تسمّيها اللغة السائدة بـ "التقليدية"، ليست مقتنيات، ولا صناعات، وليست أيضاً تقليدية، لأن هذه الأسماء لم تحتفرها اللغة الإعلامية، المفتونة بالابتذال، للإشادة بها، ولكن لإهانتها، مُعبّرةً عن الجهل بقيمتها. وهي قيمة لا تسكن اللقية التي نتغنّى بها كتحفة، احتفاءً بماهيّتها النفعية، ولكن القيمة الحقيقية تستودع عمقها، كبرهان يستدرج، للتدليل على حضور هويّة. هوية تبدو مغتربة. مغتربة لأنها صنيعة الزمن الضائع. فالصّانع الذي يعاند هذه المصنوعات، التي ننعتها بالمقتنيات، ليس صانعاً في الواقع، ليس هو مَن يرجع له الفضل في إتقان الصنعة، ليتبوّأ منزلة المبدع، منزلة المستكشف، الذي تقَّنَ، تَقَّنَ فأتقن النموذج، ووضع خريطة الترسيمة، مما يعني أن دهاة الصناعات التقليدية، ما هم سوى أخلافٍ، تسير على هذي أسلاف. أخلافٌ يحاكون ما استعاروا من ماضٍ مجيد، وليسوا مخوّلين بالاجتهاد في الصنعة، أو الابتكار في التقنية، لأن ذلك سيكون تجديفاً في حقّ الوصايا التي ورثوها من خزائن الأسلاف، من مستودعات واقع كان، في المعادلة، أرومة، ليتحوّل بتوالي الأجيال، مدوّنة. مدوّنة تستوعب صحفاً ذات طبيعة أثرية، أثريّة بقدر ما هي قدسيّة؛ لأن كل بصمةٍ في صلد غارٍ، أو رسمةٍ في رقعة جلدٍ، أو رمزٍ في ضفيرة صوفٍ، أو شكلٍ تجسّد في قطعة معدن، سواء أكان نحاساً، أم فضّةً، أم ذهباً فهو، في النهاية، عملٌ رسالي. عملٌ رسالي، كل ما هنالك أنه خاضعٌ لقواعد التَّوْرِية، خاضع لقانون الاستعارة، خاضع لناموس الشعر، لأنه ناطقٌ بروح الجمال. فالذخيرة مغسولة كلها بالأنفاس: أنفاس الحنين، أنفاس الشجن، أنفاس التوق إلى البعد المفقود، حيث يهيمن الحُلم، حيث يقيم المحال. محالٌ مجبول بالدرس. الدرس الوجوديّ، المشفوع دوماً بنفحة عدم. الدرس المجلّل بجدل: جدل الخلود والفناء. جدلٌ عصيّ، بل مُميت، ولا سبيل للاعتراف به إلاّ الإنشاد، إلاّ الغناء، إلاّ المعزوفة. المعزوفة التي لا تجد تعبيراً لها سوى السحر. سِحر يسكن كلمة مسكون. يسكن طبيعة النموذج الذي لا يرتضي سوى المسّ مقاماً. فالكلمة هنا بلاغ. الكلمة المجسّدة هنا وصيّة، كلمة يقع وزر ترجمتها على منكب الحسّ. الحسّ المجبول بالوَجْد. المجبول بشطحة تليق بملل الشعراء، لأن الأوائل كلّهم شعراء. كلّهم شعراء بالفطرة. والشعراء وحدهم يستجيرون بالحسّ كلّما أعجزهم الإنشاد، كلّما أعجزهم الغناء، كلّما أعجزهم الحرف في التعبير عن الحدس، فيتنازلون. يتنازلون بالنزول أرضاً، ليختطّوا شعرهم على كل ما وقعت عليه أيديهم، لتستقيم أشعارهم في كل ما ورثناه عنهم، ظنّاً منّا أن هذه البصمات المزبورة على الأشياء، هي مجرد مقتنيات، مجرد تقنيات، مجرد مصنوعات؛ لأننا نجهل طبيعة الأشجان التي أبدعتها، الأشجان التي تغنّت بها غناءً، ولكن اللسان أعجزها، فلم تجد مفرّاً من أن تدفنها في أشياء الحسّ دَفناً، لأن الطبيعة، في يقينه، ليست مجرد وطن، ليست مجرد مسقط رأس، ليست مجرد أمّ، ولكنها صحيفة أيضاً. الطبيعة قرطاس أيضاً، بل هي القرطاس الوحيد الذي ينفّس عن الشجن. ينفّس عن الحنين لنيل المحال. ينفّس عن غصّة الاغتراب. ينفّس عن عذاب البحث عن الله! ينفّس عن فجيعة الحضور قيد وجودٍ غاب فيه الله، برغم حجج الحدس الذي يتغنّى بوجود الله، وكلّ ما سوّقه في عمله هو بمثابة ترجمة لملحمة في مديح الله. أفلا نوجّه إهانةً لجناب الأسلاف عندما نعامل وديعتهم كمجرّد مقتنيات، أو مصنوعات، نتشدّق بوجوب المحافظة عليها بوصفها تراثاً؟ وما يجب أن نفعله بشأنها ليس قبولها، أو الوثوق بها، كمسلّمات، ولكن استنطاقها كموقفٍ نقديّ من الوجود. نقدي؟ بلى! موقفنا منها أيضاً يجب أن يخضع لمنطق الموقف النقدي، بالتشكيك فيها كمسلّمات. موقف نقديّ لن يحقق الغرض ما لم يعتنق دين السؤال. فهل هذا الإرث، الذي نسمّيه مقتنيات، هو مجرد غنيمة أنتجها الفضول، أو تمائم أبدعها نداء شغف، أو أحاجٍ تعبّر عن افتتانٍ، فتطرح، بهذا العمل، سؤالاً، موجّهاً للطبيعة، أو لما أخفته الطبيعة، بدل أن تجيب عن سؤال؟

فما نعلمه يقيناً أن هذه الذخيرة لم ينتجها الظمأ إلى اللهو، والرغبة في قتل شبح الوقت، ولكنها تعبيرٌ عن موقف أناسٍ لم يجدوا السبيل لتدوين إيمانهم سوى الاستجارة بالأشياء، لكي تنوب عنهم في نقل وصاياهم، في تلك الحقبة التاريخية التي اغتربت فيها الأبجديات، ولم يُنجد ميلاد الحرف الإنسان في محنته بَعد. فالتحدي كان جلاداً باسم الفناء، هيمن على الواقع كالكابوس، مهدّداً بإشعال فتيل تلك الفتنة بين الإنسان ووجود الإنسان، التي كادت تحوّل الخصام قطيعةً، لو لم تتدخّل الطبيعة لتلعب دور الوسيط، فيجد إنسان الزمان، ملاذه في هباتها، ويبثّ أشياءها شجونه، مستعيراً في نحت هواجسه بالشعر، مستعيناً، في حمّى مرافعاته عن حضوره، بالأقنعة؛ ليبرهن بالتجربة أن القيمة في كل عملٍ إنما هي رهينة مدى حرارة النزال مع الفناء، الناتج عن مدى قوة الإحساس بالحضور في الكينونة، أي مدى الحرص على رفض الفناء، لإثبات وجودٍ يكفيه فخراً أنه كان يوماً حقيقة، حتى لو أخفق في حلم الأبعاد القصوى، ولم يحقق ما نسمّيه خلوداً. هذه هي الوصيّة، في صيغتها النهائية، التي شاء إنسان الزمن الضائع أن يحيلها لنا في ما نسمّيه "مقتنيات تقليدية" فلا يسعنا إلاّ أن نعترف بأنها ليست مجرد وصية دنيوية يمكن معاملتها كشهادة وفاة، ولكنها وصية دينية تحرّض على وجود ذخيرة ميراث.

وواجبنا هو أن نحسن مساءلتها على النحو الذي يليق بكل كنز مطلسم، يخفي خلف ستور الأحجبة حقيقةً منيعة، اغتربت لا بسبب القدمة وحسب، ولكن بسبب شغف الأوائل بالتورية: تورية صارت في حياتهم فتنةً، استهوتهم إلى الحدّ الذي دفعهم لاختلاق لغات مستغلقة، كانت وقفاً على دهاة الأمم، كما الحال مع الهيروطيقية في مصر القديمة، التي كانت حكراً على الكهنة، أو السنسكريتية في الهند القديمة، التي كانت معتمدة لدى رجال الدين، أو اللغة المشفّرة، السائدة في محافل دهاة ليبيا القديمة، وورثها عنهم أحفادهم أمازيغ الصحراء الكبرى، ماتزال بقاياها متداولة في لسان أمّة الملثّمين إلى اليوم. هذه الأمة التي لم تعتمد في حياتها اللثام ديناً إلاّ بسبب هوسها بالتورية.

 والقناع، في ملحمة التورية، رأس حكمة.

فالحاجة إلى وجود الهوية، الهوية في بُعدها الحرفي، إلى جانب بعدها الروحي، هو ما أوجد الأقنعة. قناع كان في البدء مبثوثاً في شعار العائلة، ثم ما لبث أن تطوّر، بحثاً عن العلامة الفارقة، على مستوى العلاقة: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. علاقة ملتبسة بطبيعتها، ومشفوعة بصنوف الشكوك، يحوم في سمائها شبح الخطر، ولكنه الخطر الذي لا غنى عنه، ما دام الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن أخيه الإنسان، مهما اعتنق المذهب الشائع "الإنسان للإنسان ذئب".

نستطيع اختيار نموذج كاللثام، ليكون لنا موضوع حكم، من بين بقية الوصايا، كي نخضعه للمساءلة في حمّى بحثنا عن الماهيّة. ففي البداية يجب الاعتراف بأنه قناع. قناع يدير وظيفة، بل ربما وظائف ليس أقلّها شأناً الوظيفة الجمالية. فهو أيضاً زينة. يأبى أهل اللثام إلاّ أن يتفننوا في صنعه، وفي تلفيقه، وفي طرق ارتدائه، حسب المنزلة الطبقيّة. ففيه تتنوّع نوعيّة الأقمشة، وتتعدّد الألوان في نوع الأقمشة، بل كثيراً ما تتضاعف بُنيته لتزدوج في اللفافة، أو تُلحَق بكيانه لمسات أخرى إمعاناً في إغنائه، واستنزالاً في حقّه مزيد الأناقة. أي أنه لم يعد مجرّد قطعة قماش صيغت كي تستر سيماء الوجه، ولكنه تحوّل، مع الزمن، إلى شارة، إلى راية، إلى علمٍ، مسكون بقدسية، تجعل المساس به، أو الاستهانة في شأنه، ضرباً من تجديف جدير بالقصاص. وهو ما يعني أنه تنكّر مع الزمن لوظيفته الأصليّة، بوصفه أداة مستعارة من مملكة الطبيعة، لأداء وظيفة طبيعية كالوقاية من تذبذب مزاج هذه الطبيعة، في حرّها، أو قرّها، أو رياحها، سيّما في بيئة متطرّفة بالسليقة كالصحراء، فلا سبيل للتصالح مع ظروفها سوى الاحتيال عليها باختراع ما من شأنه أن يضمن فيها الحضور الآمن. وعلّ غرام واقع القبائل الإفريقية أو الآسيوية، وكذلك الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، بالأقنعة الملفّقة من صنوف الأخشاب، لهو البرهان على الهوية البدئية لظاهرة القناع إجمالاً، ثم تطوّرت الظاهرة، في مراحل تاريخية تالية، لتستعير هيئة اللثام، كما يهيمن في عالم أهل الصحراء الكبرى.

فوظيفة الأرومة ذات بعد طبيعي، ولكن المطاف انتهى بها إلى وظيفة أخرى، اجتماعية، ثم مرتبة تالية: جمالية، قبل أن يبلغ العتبة الأخيرة في السلّم، وهي: الطقسيّة.

فالهالة التي أُحيطت بهذا القناع ليست بلا أسباب. فأن يكون حجاباً يخفي وجود الرجال، دون ملل النساء، يبدو، في واقع اجتماعي محسوب على الشرق، مفارقة مخالفة للمنطق السائد، الذي يرى أن المرأة هي الأحقّ بإخفاء السيماء، وليس الرجل. ولكن الأسطورة، في الحقّ، لم تبدأ هنا، ولكنها تعود إلى واقع مجتمع اعتاد أن يستنزل هوية الطقس في كل ممارسة دنيوية؛ وها هو يسنّ لهذا القناع المراسم أيضاً، حيث يقضي العرف ببقاء الحلم بنيْل شرف الانتماء إلى حرم اللثام عملاً مؤجّلاً، فلا يتحقق قبل بلوغ سنّ الرشد، حتى إذا جاء ميعاد التعميد، اقتيد المريد إلى الخلوة التي يُدشّن فيها باللقية المأمولة، فيرتديها، لكي لا ينزعها أمام الأغيار حتى اللحد. أي أن اللثام يغدو، منذ تلك اللحظة، قدراً، بل تصير تلك القطعة من القماش امتداداً لجرم حاملها، كأنها عضو أُضيف إلى الجسد!

وهو ما يعني أن التحرّر منها في حضرة الأغيار خطيئة، أو، بلغة سدنة الناموس، عارٌ لا يُشترَى بثمن.

من هنا بدأت حملة أسطرة الفعل، واستنزال تلك الهالة في حقّه كي يشرع القوم في التفنّن في ابتكار أجناسه، أو ألوانه، أو كل أنواع العناية بأمره، سواء على المستوى الطبقي، أو الجمالي، لأن اللثام منذ الآن هو الترخيص القرين في حياة المريد، لسلطة الاسم. وهو ما يفسّر اللعنة التي تتنزّل في حقّ رجلٍ سقط اللثام عن رأسه في محفل، فلا يبقى للمصاب إلاّ أن يختفي من القبيلة، بل ومن كل الصحراء، كما اختفى زعيم أسلاف القوم يوم سقطت الريشة التي تتوّج رأسه في الحملة على مصر القديمة، فلم يبقَ له إلاّ أن يتوارى إلى الأبد، برغم انتصاره في الحرب، ولكن الشعار خذله، فألحق به الهزيمة، في حين حقق الغلبة، مما يبرهن على جذور اللثام، التي لم تكن في المنبت سوى ريش، على طريقة الهنود الحمر.

فما سرّ الولع بالقناع أصلاً؟

في قلب كل منّا يقيم قرين غيبيّ، لا يكفّ عن تحريضنا لكي نتنازل عن هويّتنا، ونتيح له الفرصة كي يتحرّر من سجنه. هذا هو سبب توقنا لإطلاق سراح هذا السجين المجهول، علّنا نفلح باستبدال شخصيّتنا، لا في بعدها الحرفي بالطبع، ولكن في بُعدها كماهيّة، في بعدها كاستجابة لنداء مجهولنا الذي يسكننا. أي حنيننا المحموم لاستبدال هويّتنا، والفرار من أنفسنا!

واستعارة القناع يروي ظمأنا لتغيير الوضع، والاختباء وراء الحجاب المستعار. أي الاستمتاع باسترضاء القرين، والقبول بتبادل الأدوار حتى في حال اقتنعنا، بيننا وبين أنفسنا، بزيف هذا الدور؛ ربما لأن الحرية، التي يمنحها لنا هذا اللعب، ترضي سعينا للتخلّص من أنفسنا. فمرتبة الوقار التي يتطلّع إليها هواة المبالغة في استنزال مسوح المهابة في اللثام، ما هي، في الواقع، إلاّ الرغبة الدفينة في ممارسة الإرهاب. والدليل يترجمه لنا مسلك الأطفال الذين يفزعهم تنكّرنا خلف قناع حتى لو كانوا على يقين من حقيقته كمزحة منّا لمداعبتهم. إنهم ينكروننا حقاً حينئذٍ، ولا يعترفون بهويّتنا المستعارة مهما حاولنا أن نوهمهم بالخدعة طمعاً في كسب ودّهم، وتسويق اللعبة لمجرد تسليتهم حسب بنود عهد مسبق. فالزور في الدعابة يستفزّهم، ويوقظ فيهم هول أن يرتضي المخلوق لنفسه هوية مستلبة، فكيف إذا ألهمته روح الفطرة كم هي مسخ منكر هذه الهوية المكتسبة؟

هنا يأتي دور الميثولوجيا لتصحيح الوضع. فالأسطورة تروي كيف خرج الرجال في غزوة ضدّ أطراف معادية، ولكن الحظّ خذلهم، فمُنِيوا بهزيمة منكرة، ولم يجدوا، في طريق العودة، حيلة لحفظ ماء الوجه أمام نسائهم، سوى القناع كي يخفوا به خجلهم.

بالمقابل، فإن النموذج الذي احترف القناع، وارتضى الحجاب الغيبي ديناً، لا يلبث أن يصير القناع جزأً لا يتجزّأ من شخصيّته. وعلّ أمّة الملثّمين أدلّ مثال على ذلك. ففي رواية "واو الصغرى" لمؤلف هذا البيان، يتجرّد العرّاف في أحد الأيام من اللثام بسبب مسٍّ طارئ، فيُنكره الجميع. ينكره المجتمع، لأن اللثام هنا لم يعد حجباً لسيماء الوجه، ولكنه يغدو ترجماناً لهوية؛ ولهذا السبب نجد حكيم القوم يأمر الأعوان بإحكام اللثام حول رأس صديقه القديم، لا لكي يتعرّف إليه، ولكن لكي يعترف به. يعترف به لكي يستعيده من اغترابه التراجيدي، كصديق أنكره روحياً، لأن الأقدار استنزلت في حقه قصاصاً غامضاً، فنزعت منه وجهه!

ولكن، بتأمّل عابر، لن يعجزنا أن نكتشف أن هذه أمثولة أخرى لتأكيد اعتناق دين القناع، اعتناق دين التورية، لأن اللغة الشعرية أيضاً لم تُخلق للتعبير عن الأفكار، مثلها في ذلك مثل اللغة الحرفية، ولكن خُلقت لإخفاء النوايا، كما يتندّر تاليران، لأن الخجل من الهزيمة لم يكن في معركة الغزوة، ولكن الإنكسار من غزوة أخرى أعظم شأناً بما لا يقاس، وما انكسار الغزوة في معركة الواقع الحرفيّ سوى احتيال عليها بتفويض المجاز. فالحياء الذي نحاول أن نداريه هو نتاج الإخفاق في غزوة الكينونة، المعبّر عنه في الكتب المقدّسة، بل وفي غير الكتب المقدّسة (متون آنكسيماندر مثالاً)، بالخطيئة الأولى، واستخدام القناع كان حيلة عفوية لمداواة الخجل الفادح، الناجم عن عارٍ بهذا الحجم، لا سبيل للتكفير عنه إلاّ بقبول المنيّة قدراً.