خلال الشهر الماضي فقط، رُصدت عشرات البيانات التي أصدرتها وزارة الخارجية التركية وغيرها من مؤسسة السلطة التركية، التي نددت فيها بتواصل هذه الدولة أو تلك المؤسسة الدولية مع طرف كردي ما، داخل تركيا أو خارجها.
ذلك الأمر الذي يجري مثله على الدوام، بشكل شهري دوري؛ حتى يُخال للمرء بأنه ثمة مؤسسة تركيا كبرى، بآلاف الموظفين والفاعلين، مهمتها الوحيدة رصد تفاعل القوى السياسية والمؤسسات المدنية الإقليمية والدولية ما أي شأن يتعلق بالأكراد، ومن ثم التنديد بذلك ومحاولة قطعه.
مثلاً، الخارجية التركية كانت قد نددت، على لسان المتحدث باسمها حامد أقصوي، وبأشد العبارات، باللقاء الذي جمع الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأطفال والنزاعات المسلحة فرجينيا غامبا بقائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي. معتبرة بأن ذلك يشكل انتهاكاً صارخاً للجهود الدولية لمحاربة الإرهاب، وأن الأمم المتحدة تكون بذلك قد اعترفت بجهة إرهابية!
أصدرت الخارجية التركي ذلك البيان، على الرغم من أن الجنرال مظلوم عبدي معترف به من قِبل مختلف القوى الدولية، كقائد لأكبر قوة ميدانية حاربت إرهاب التنظيمات المتطرفة طوال الأعوام الماضية، تلك التنظيمات التي ثمة شُبهات كثيرة حول علاقاتها غير المُعلنة مع تركيا.
مع ذلك البيان، تكون تركيا قد أصدرت أربعة عشر تقريراً تنديداً من ذلك النوع خلال الأيام الماضي من شهر سبتمبر/أيلول الجاري فقط. فالخارجية التركية نددت قبل ذلك بإدراج وزارة التربية الفرنسية لدرس في واحد من كتبها المدرسية حول الأكراد، تاريخهم وحاضرهم، يحوي فقرات عن كفاح الأكراد في سبيل نيل حقوقهم العادلة، وما تعرضوا له من مجازر في سبيل ذلك.
قبل ذلك كانت الخارجية التركية قد شجبت إدراج شركة "غوغل" الأميركية لخريطة ديموغرافية للوجود الكردي في منطقة الشرق الأوسط، وطالبتها بمسح تلك الخريطة. وبعدها نددت الخارجية التركية بمساعي اليابان لإدراج اللغة الكردية كلغة تدريسية في معاهدها التعليمية. وطبعاً لا يكاد يمر أسبوع واحد دون شجب تركي للقرارات التي تصدرها المؤسسات الأوربية، الحقوقية منها بالذات، لصالح المؤسسات والجهات والأفراد الأكراد في الداخل التركي، التي تُنتهك الدولة التركية حُرياتهم وحقوقهم كل حين.
ثمة ما هو أسطوري في كل ذلك، يشبه حكايات القرون الغابرة. إذ تقوم الأجهزة السلطوية لدولة بحجم تركيا بمطاردة لاهثة لشبح متخيل اسمه "الشعب الكردي وحقوقه" في كل مكان، تسعى من خلال ذلك إلى خنق أية بوادر أو إمكانية لأن يظهر بها هذا الشعب أو يُعترف به كذات جمعية في منطقة الشرق الأوسط أو العالم، وعلى مختلف المستويات، السياسية أولاً، لكن أيضاً الثقافية والاقتصادية والرمزية والحقوقية، وحتى الاجتماعية.
هذا الرهاب التركي متأت من نتاج جمع ثلاثة سمات لازمت التكوين الكلي للدولة التركية الحديثة وأشكال علاقة السلطة التركية بمجتمعها الداخلي، الكردي منه خصوصاً، وحتى مع كامل الوجود الكردي في محيط تركيا الجغرافي.
فقد تشكلت هذه الدولة التركية الحديثة على أسس وأشكال واضحة من "الإبادة الجماعية". فجميع القادة العسكريين الذين ساهموا وأسسوا تركيا الحديثة، تأتوا بتعليمهم وإيديولوجيتهم من أواخر العصر العثماني، حينما صعدت المدرسة الانقلابية العسكرية/القومية، التي هيمنت على الدولة العثمانية بالانقلاب على السلطان عبد الحميد، وتكريس العقيدة العسكرية/القومية.
كانت الإبادة منهاجاً دائماً لهؤلاء الانقلابيين العسكريين، مارسوها بحق الأرمن واليونان والسريان، وجربوها بحق العرب، ففتكوا بالنخب العربية القومية، لكنهم لم يتمكنوا من التنفيذ بحق المجتمعات العربية، بسبب توازنات الحرب العالمية الأولى. فعادوا وطبقوا سياساتهم تلك كاملة بحق الثورات الكردية التي اندلعت في وجههم عبد تشكيل الدولة الحديثة عام 1923.
هذه الذاكرة من الإبادة ما تزال متوهمة بأنها تستطيع أن تخفي أو تكتم وجود شعب كامل، وأن تلك المهمة ليس صعبة المنال قط، أياً كانت أثمانها الأخلاقية والحقوقية، دون أي تفكير بالفروق الهائلة من الزمن الحالي والأزمنة الغابرة التي مضت.
كذلك فإن الكيان والقوى السياسية التركية مصابة بداء المركزية. إذ ثمة حضور للمركزية في كل شيء، يسعى هذا الكيان بنخبه وقواه السياسية لأن تكون تركيا دولة مركزية بكل شيء، حتى أنها صارت كياناً محكوماً من رجل واحد، يتدخل ويتحكم بأصغر موضوع في أقصى مناطق البلاد. هذه المركزية ليست إدارية واقتصادية فحسب، بل هي سياسة بدرجة أولى، متلهفة لأن يكون للعاصمة والنفس القومي التركي الرأي القطعي والنهائي في كل تفاصيل البلاد.
كان أكراد تركيا، الذين يشكلون أزيد من ربع سكان البلاد، استهدافاً مباشراً لتلك المركزية السلطوية، في الإدارة والسياسة والاقتصاد والرموز، لأنهم الآخر الذي سيفرض تقاسم السلطة السياسية والرمزية والاقتصادية، لو اُعترف بهم، وصارت تركيا مثل غيرها من الدول متعددة القوميات والهويات. تمتين تلك المركزية كان يمر عبر إنكار تام، سياسي أولاً، لوجود هؤلاء الأكراد، داخل تركيا وخارجها.
أخيراً فإن النظام السياسي التركي كان يميل دوماً لأن يستحوذ جزءا رئيسياً من سلطته وشرعيته الجماهيرية من خلال الخطابات والتعبئة القومية. فشتى الأحزاب السياسية التركية، التي كانت مختلفة فيما بينها على القضايا السياسية والاقتصادية والتوجهات الخارجية، كانت في المحصلة قوى وأحزاب قومية، تميل لتكريس هيمنة أبناء القومية التركية على باقي القوميات والجماعات الأثنية والعرقية في منطقة الشرق الأوسط، وإلى حد ما في العالم. إذ لا تخلو كل البرامج والديباجات الداخلية للأنظمة الداخلية لمجموع الأحزاب التركية من تلك النزعة التركية، التي فرضتها مختلف الدساتير التركية.
الأكراد كانوا بذلك المضاد النوعي لذلك الأساس القومي لمختلف القوى والدساتير والقوانين التركية. وبذا ليس من تحول تحديثي في الدولة والمجتمع التركي، دون تحول واضح في علاقة ورؤية للأكراد، داخل تركيا وفي العالم.
هذا ليس شرطاً سياسياً، بقدر ما هو شرط منطقي حتمي، مثل شروط التعافي من المرض.