عام 2007 كنت وأحد الأصدقاء الأتراك في جلسة عمل، وكانت تعتلي وجهه تعابير غضب، وعندما استفسرت عن السبب، أجاب "كيف يمكن للعالم أن يحترمنا ورئيسنا يقول إن حرائق كاليفورنيا هي عقاب من الله، نحن اليوم نعمل في القارات الخمس، وفي شتى القطاعات، ويأتي هذا الأرعن ليصرح بمثل ما قاله، دون أن يعبأ بمصالحنا الوطنية".
تيار الإخوان سَوق المنجز الاقتصادي التركي على أنه نتيجة تسنم حزب العدالة والتنمية سدة الحكم في تركيا، وفي واقع الأمر أن هجرة رؤوس الأموال التركية من ألمانيا تحديدا واعتمادهم النموذج الألماني في إعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية والخدمية هو ما أسهم في النهضة الصناعية التركية.
ولنفترض جدلاً أن النموذج السياسي الاجتماعي الذي مثله حزب التنمية والعدالة اعتمد الواقعية العملية وليس السياسية، فهل كان من الواجب إشراك القطاع الخاص الذى حقق ذلك التحول النوعي في مرافق الصناعة التقليدية (تحولت تركيا لأكبر منتج للسيارات)، ذلك بالإضافة لتنمية قطاعات مستحدثة في مجالات التصنيع الأمني والدفاعي بدل إقصائه سياسيا.
الاقتصاد التركي يعيش الآن حالة انزلاق حرجٍ، وفرص كبح ذلك الانزلاق تعتبر في حكم شبه المستحيل إن لم يتراجع الرئيس أردوغان عن اعتماد مبدأ البهللة السياسية تركياً ومتوسطياً، أي ارتهان الدولة بكل مقدراتها الوطنية في خدمة مشروعه السياسي القائم على إحياء إرث الدولة العثمانية. ولا يوجد ما هو أبلغ في التعبير عن السيكولوجية الأردوغانية من إصراه على حضور تصوير مسلسل "قيامة أرطغرل" الذي حوله إلى أهم أدوات قوتها الناعمة، بل إنه استقبل في إحدى الدول بعزف الموسيقى التصويرية للمسلسل.
أقصى حالات البهللة التي بلغتها الأردوغانية، هو تنكره لرفاق دربه الكبار من أمثال عبدالله غول، وعراب الأردوغانية، وزير خارجية تركيا العتيد، أحمد داود أوغلو. فالرئيس أردوغان تعمد اقصاء الاثنين ليس نتيجة التشكيك في ولائهم له، إنما لتمثيلهم كتلة عالية الحضور الوطني المخالف لتوجهات البهللة.
أما على الصعيد المتوسطي والشرق الأوسط، فإن التحذير الذي وجهته رئيسة المفوضية الأوروبية، أرسولا فون دير لاين في 16 من سبتمبر الجاري، هو الاقسى سياسياً "نعم، تقع تركيا في منطقة تشهد اضطرابات. نعم، هي تتلقى ملايين اللاجئين ونحن ندفع لاستقبالهم مساعدات مالية كبيرة نظير استقبالهم. لكن لا شيء من ذلك يبرر محاولات ترهيب جيرانها" انتهى الاقتباس.
عبر التاريخ السياسي، شهدنا الكثير من أمثلة النرجسية السياسية والأخلاقية، إلا أن نرجسية التيارات السياسية المتدينة (الإسلامية، والمسيحية، اليهودية، وحتى البوذية في بعض أفرعها) مثلت وستستمر في تمثيل أكبر الأخطار على الاستقرار الاجتماعي خصوصا في الدول غير المستقرة سياسياً واجتماعيا. لذلك يجب أن لا نستغرب بلوغ الأردوغانية حالة البهللة السياسية، وكأن مآسي سياساتها في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، ذلك بالإضافة إلى القرن الأفريقي (انطلاقاً من الصومال) يجب أن يكون مقبولاً من قبل المجتمع الدولي، كونه جزء من إرثها العثماني.
هذه الحالة لا تختلف عما تطرحه أنظمة مارقة مثل إيران وكوريا الشمالية، فالفلسفة الحاكمة هي "الدولة في خدمة الزعيم". وبالمقارنة لما حوله النظام الفاشي في إيران لإيران منذ انقلابها الدموي على شركائها السذج سياسيا في ثورة 1979، فإن فشل أردوغان في تحويل تركيا العلمانية إلى دولة ثيوقراطية متخلفة، هو عمق أسسها الأتاتوركية. وبالرغم من كل القمع الذي يمارسه بهلول أنقرة، إلا أنه فشل في اقتلاع ثقافة الجمهورية المدنية.
معايدة صديقي التركي الأخيرة اختزلت بؤس الحالة التركية "ربما أنت آخر أصدقائي العرب، لأن الشرقيين انفعاليون، ويرون في كل تركي شخص أردوغان، وأنا لا ألومهم، لكني مللت شرح الأمر. كل ما أتمناه اليوم، هو قضاء ما تبقى لي من عمر في هدوء، مع أننا نحلم بالعودة للعمل في قطاع البناء حول العالم كما كان الحال قبل أن يحل علينا هذا الشيطان اردوغان. الآن أنا أعيش بكرامة مما حققناه عبر العالم من مشاريع، وأستعين على طول الليالي بما تبقى من أصدقاء أستطيع ائتمانهم على مخاوفي، وكذلك الاستعانة ببعض كؤوس العرق، حتى لو وجه إلى سؤال: ماذا تتوقعون من عجوز ثمل هرم. انتبه لنفسك يا صديقي، وتذكرني بخير" انتهى الاقتباس.