يصعب على أي معلق سياسي أن يتنبأ بنتائج الانتخابات الأميركية هذا العام، لأنها لا تخضع للمعايير الكلاسيكية التقليدية، التي تمنح المعلق المعلومات والمعطيات، التي يستطيع من خلالها أن يتنبأ بهوية الفائز.

فقد كان سهلا، على سبيل المثال، التنبؤ بفوز باراك أوباما في عام 2008، عطفا على الأحداث التي تمت في عهد سلفه، الرئيس جورج بوش الابن، ومنها الكذب بخصوص أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق، والقرارات السيئة، التي اتخذتها أميركا، مثل حلّ الجيش العراقي، علاوة على تذمر الشعب الأميركي من ازدياد عدد القتلى والجرحى.

ولذا كان واضحا أن الشعب سئم من الحرب، ولا ننسى دور وسائل الإعلام، التي دخلت في قصة حب تسويقية مع أوباما بشكل لم يسبق له مثيل، ومثل ذلك التنبؤ بإعادة انتخاب الرئيس بيل كلينتون في عام 1996، إذ كان صعبا أن يهزمه أي مرشح ، بعد فترة رئاسية مليئة بالإنجازات، خصوصا ما يتعلق بازدهار الاقتصاد.

أميركا تمر بحالة انقسام حادّة، وقودها الغضب والعنصرية وانعدام التسامح والاصطفاف الحزبي والأيديولوجي، لدرجة أن هناك من المعلقين من تجاوز في التنبؤ بقرب انهيار هذه الإمبراطورية، التي لم يوجد لها مثيل في التاريخ الإنساني، حيث ظلت مصدرا للتقدم والإلهام والتسامح والممارسة الحقيقية للقيم الإنسانية مثل الحرية والحقوق. فقد أصبحنا نشهد ممارسات لا تشبه أميركا، ليس فقط على المستوى الشعبي، مثل الفوضى والتخريب وعدم احترام النظام ورجال الأمن، بل حتى على مستوى النخب، فلا تكاد تجد مكانا للموضوعية، بل انحيازا لهذا الحزب أو ذاك، يشبه في كثير من الوجوه، انحياز المشجعين الرياضيين لفريقهم المفضل، وأصبح أمرا عاديا أن يقود المذيع دفة الحوار، ويجذب المعلق النخبوي معه، وأصبح هناك شبه قناعة لدى بعض القلة الباقية من النخب أنها إذا لم تنحاز وتصطف مع ما تريده المنصة الإعلامية، فإنها ستستبعد من المشهد، وكان هذا واضحا في منصات راقية، مثل "سي أن أن" و"فوكس نيوز"، وهذا أمر لا يشبه أميركا مطلقا.

في ظل هذا المشهد المتوتر، يصعب أن يغامر أي معلق بالتنبؤ بهوية الفائز، فالناخب المحايد سيكون في حيرة ، من جراء التناقضات والكذب والتضليل، وبالتالي ربما لن يقرر لمن يمنح صوته إلا في اللحظة الأخيرة، فعندما تتابع المنصات الإعلامية وهي تتحدث عن ذات القضية، ستحاول المنصات المنحازة للديمقراطيين أن تقنعك بأن الرئيس ترامب سيتسبب بانهيار أميركا، ثم ستشعرك المنصات المؤيدة له بأنه المنقذ، الذي سيتدارك البلاد، قبل أن تصبح لقمة سائغة في فم التنين الصيني، وفي مثل هذا المشهد الفوضوي، قد لا يعتمد على تنبؤات أفضل المعلقين، الذين يعتمدون في تنبؤاتهم على قواعد علمية صارمة وحسابات دقيقة، تشبه العمليات الرياضية، ويحسن هنا أن نتطرق للأكاديمي والمؤرخ الشهير، آلان ليكتمان، الذي استطاع التنبؤ بالفائز في الرئاسة بشكل صحيح على مدى سنوات طويلة.

الدكتور ليكتمان وبالمشاركة مع العالم الروسي، فلاديمير كيريس بروك، قاما بتصميم نموذج اسمه "مفاتيح دخول البيت الأبيض "، واستطاع ليكتمان - باستخدام هذا النموذج - أن يتنبأ بفوز كل رؤساء أميركا منذ عام 1984 بشكل صحيح، عدا عام 2000، عندما تنبأ بفوز الديمقراطي، آل غور.

وفي تقديري أنه حتى هذا التنبؤ كان صحيحا، فالمرشح قور فاز بأغلبية أصوات الشعب، وحصل خلاف حول أصوات ولاية فلوريدا، ثم حكمت المحكمة العليا بفوز بوش !، وقد تنبأ ليكتمان بأن الفائز بانتخابات هذا العام هو الديمقراطي، جو بايدن، وهذا أمر غير جيد بالنسبة لترامب وأنصاره.

ولكن هناك أمرين يجب أن نأخذهما في الاعتبار، في ظل الانقسام الحاد حاليا، أولهما أن ليكتمان ديمقراطي ويزعم بعض المعلقين أن تنبؤه هذه المرة مسيّس، وجزء من الحملة الشرسة ضد ترامب، وثانيهما أن انتخابات هذا العام مختلفة وغير تقليدية، وبالتالي فإن الحسابات العلمية، مثل مفاتيح ليكتمان، لا تنطبق عليها، مع التأكيد على أنه يصعب تصديق أن أكاديميا مثل ليكتمان سيسمح بتسييس تنبؤاته.

ولذا، سننتظر ونرى ما إن كان ليكتمان سيدخل التاريخ مرة أخرى، أو يثبت ترامب أن الجميع كانوا على خطأ، بما فيهم مؤرخ شهير بحجم ليكتمان.