لم يمرّ على قيام الدّولة في الإسلام إلاّ بضعة عقود، حتّى أصبحتِ السّياسةُ موضوعَ تفكيرٍ وتأليف بعد إذْ لم تكن قد تمتّعت – في ابتداء نشأتها – بأيّ تشريع دينيّ.

وليس من غرابةٍ في الأمر؛ لأنّ السّياسة ديناميّةً اجتماعيّة طبيعيّة في أيّ اجتماعٍ (وإلاّ ما كان اجتماعًا)؛ ولأنّ ظواهرَها الكبرى، مثل السّلطة والدّولة، من الحاجات والضّرورات التي تفرض نفسَها في أيّ مجتمع؛ ثمّ لأنّ مؤسّسات من هذا القبيل، ذاتِ شأنٍ خطير في حاضر الجماعة السّياسيّة، لا يمكنها إلاّ أن تكون موضوعَ تفكيرٍ عند النّخب وباعثًا على التّأليف في أغراضها. إلى ذلك يمكن ملاحظةُ عاملٍ آخر يستنزل هذه المهمّة (مهمّة التّفكير في شؤون السّياسة) ويُملئ على النّخب واجب النّهوض بها: أعني حاجة الدّولة والسّلطة القائمة إلى معرفةٍ بشؤون السّياسة والحكم في مجتمعٍ لم تكن قد توفّرت فيه معارفُ في هذا الشأن لحداثة عهده بالدّولة.

ثمّة وجوهٌ وتبدّياتٌ مختلفة لهذه الحاجة لدى السّلطة السّياسيّة إلى معرفةٍ بميدان السّياسة يُرْجَع إليها، عند الاقتضاء، أو يُستأنَس بها، أو يُتَّعَظُ بدروسها (خاصّةً إن تناولت تجاربَ من الحكم أخرى)، أو تُشْتَقّ منها هندسةٌ مّا: إداريّة أو سياسيّة يتغذّى بها كيانُ الدّولة ويتوطّد...إلخ. ننتقي من هذه، على تعدُّدها، التّبدِّيَّيْن التّاليّين:

تتمظهر أولاها في شكلٍ حاجةٍ من النخبة الحاكمة (خليفة، سلطان، أمير ... وحاشيته المُحيطة) إلى المعرفة بفنون الحكم وكيف القيام به، وتقنيات إدارة شؤون الرّعيّة ...؛ وهذه معرفةٌ يوفّرها الأعاجم، ابتداءً، لسابق عِلمهم بكيف تُدار أمور السلطة في دولهم الكبرى ذات التّقاليد العريقة في المُلك (الدّولة السّاسانيّةـ الدّولة البيزنطيّة). وهؤلاء أسلموا ويوجد منهم في دواوين الخلفاء والأمراء كتّابٌ يتقلّدون مناصب. وهم، إلى ذلك، يعرفون ألسنة أخرى غير اللّسان العربيّ تسمح لهم بالاطّلاع على كتب السّياسة عند غير المسلمين في مظانّها.

وتتمظهر ثانيتُها في شكلِ حاجةٍ إلى تأمين اسمنتٍ شرعيّ (=دينيّ) للسّلطة يعزّز مشروعيّتها في عيون الرّعيّة. ومع أنّ هذه الحاجة يُغطّيها، نظريًّا، الخليفة بوصفه أميرَ المؤمنين وإمام الصّلاة والفُتْيَا والقضاء، إلاّ أنّ الحاجة مسَّت- باستمرار – إلى وجود جسمٍ عُلمائيّ (=فقهيّ) ينهض بأمْر التّسويغ الشّرعيّ للسّلطة القائمة، والمنافحة عنها بما هي الحافظة للدّين الذّابّة عن بَيْضة الإسلام، وبأمْر العقد لها وانتقال الوَلاية من لعهدٍ جديد. ولقد وُجِد هذا الجسم الفقهيّ، دائمًا، قريبًا من مركز السلطة ومتقلّدًا مناصب فيها (=القضاء)، ومسخِّرًا القَلم واللسان للقيام على الموكول إليه به من مهمّات.

كان هذا الطّلب السّياسيّ الرّسميّ (الخليفيّ والسّلطانيّ) على الكُتّاب والفقهاء يُنتج أدوارًا إيديولوجيّة – بلغة اليوم- داخل كيان السّلطة  فيستلحقُ أهلَ القلمِ والرّأي الفقهيّ بها. ولكنّه – وهذا هو الأهمّ في موضوعنا – كان يفتح الاب أمام نشأةِ مجالاتٍ في القول جديدة مدارُها، هذه المرّة، على السّياسة والسّلطة وشؤونهما. وهكذا، كما أنتج الدّين علومًا خاصّةً به، هي العلوم الشّرعيّة (كالفقه وأصول الفقه والتّفسير والحديث وعلوم القرآن...)، كذلك أنتجتِ الدّولة – بحاجاتها الموضوعيّة – علومًا خاصّةً بها كالسياسة والتّاريخ.

على أنّ الانشغال بالسّياسة والتّأليف فيها، في الإسلام، لم يكن يتوقّف – دائمًا – على طلبِ سياسيّ من السّلطة، بل كثيرًا ما تَصدّى له كُتّابٌ وفقهاء بواعزٍ ذاتيّ هو: تحسين أداء السّلطة أو ترشيدُه، أو تمكينُها من المبادئ التي تحتاج إليها لإصلاح أوضاعها. ولدينا، في المعرض هذا، مثالان من تاريخ الفكر السّياسيّ الإسلاميّ: الترجمة وفقه النّصيحة؛ وقد أقْدم عليهما كتّاب وفقهاء بالتِّلقاء، سواءٌ كانوا قريبين من السّلطة (الكّتّاب) أو لم يكونوا (الفقهاء).

ينبغي أن لا يفوتنا أنّ ترجمة كتبِ فارس في السّياسة إلى اللّسان العربيّ ما كانت لغرض تحقيق الإمتاع لقارئها، بل لأنّها تُطْلِع العرب – خلفاءهم خاصّة – على نظام الحكم السّاسانيّ وتقاليده وتنظيماته، كما على كيفيّات إدارته. والذين ترجموا ما ترجموه، في بداية العهد العبّاسيّ، كانوا يعرفون – على الحقيقة- أنّ النّصوص المنقولة إلى العربيّة ستَلْقى الاستقبال الطّيب من خلفاء  مسكونين بالتّجربة السّاسانيّة ومُحاطين، في دواوينهم، بوزراء وكُتّاب ومستشارين من أصول فارسيّة.  وهي، لذلك، نصوصٌ تركتِ الأثر الكبير في  الكثير من التأليف العربيّ الإسلاميّ في السّياسة ونظام الحكم، آنذاك وفي الحقب اللاّحقة. أمّا "النّصيحة" فتقليدٌ فقهيٌّ عريق في الفكر الإسلاميّ، وقد أُريدَ بها إرشاد ذوي السلطة إلى المسالك الأقوم التي يكونُ فيها مبْنى الحكمِ على قواعد الشّرع. وهي، لذلك أتت تمثِّل تدشينًا مبكِّرًا للفكرة الإصلاحيّة في تاريخ الفكر الإسلاميّ.

لم يمنعِ الفراغُ التّشريعيّ الإسلاميّ للسياسة والسّلطة من أن تنشأ، في تاريخ الإسلام، سلطة وأن ينشأ معها فكرٌ سياسيّ. وهذا يرُدُّنا إلى الفكرة الأساس التي عليها مبْنى هذا السّياق الجديد من التطوُّر، الذي فتحَتْهُ دعوةُ الإسلام؛ وهي أنّ السّياسة والسّلطة حاجةٌ اجتماعيّة سرعان ما يَخلُق قيامُها حاجات جديدة؛ منها الحاجة إلى معرفةٍ للسّياسة.