أثار اختيار الحكومة العراقية يومَ الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 1932عيداً وطنياً وإحالتها مشروع قانون بهذا الصدد إلى البرلمان للتصويت عليه، أسئلةً واعتراضاتٍ بخصوص جدوى اختيار يوم كهذا، مجهول عموماً بين معظم العراقيين.

واعتبر كثيرون هذا اليوم خالياً من الدلالة الوطنية التي تؤهله لأن يصبح عيداً وطنياً للبلد، فهو مجرد تأريخ دخول العراق في منظمة دولية -عصبة الأمم- ونهايةٍ، يعدونها شكلية، لعهد الانتداب البريطاني في العراق. في الحقيقة،  تعكس مثل هذه الآراء فهماً ملتبساً وإشكالياً لقصة العراق كدولة، فضلاً عن سوء الفهم الذي تنطوي عليه لمعنى العيد الوطني كلحظة جامعة مفترضة لمواطني البلد ومؤسساته.

لقد كان الثالث من تشرين الأول/أكتوبر إنجازاً وطنياً لافتاً، توج نضالات عراقية مختلفة، مسلحة وسلمية، تخللتها الكثير من الخلافات العراقية-العراقية، تواصلت نحو ثلاثة عشر عاماً بين عامي 1919 و1932، وصولاً إلى تحقيق هذا اليوم.

أحد أسباب صعوبة الإقرار بالمنجز العراقي حينها هو التعتيم التأريخي والثقافي على الحقبة الملكية، وتصويرها بدون منجز من خلال التوقف عند سلبياتها فقط، واختصارها عبر تعميمات أخلاقية إشكالية وإيديولوجية ترى في أربعة عقود تقريباً من تأريخ الدولة العراقية، هي عمر النظام الملكي، على أنها عهدُ استبدادٍ واستعمارٍ وعمالةٍ للأجنبي، ليس فيها ما يستحق التعلم منه او الفخر به. ورغم العداء الواضح بينها، توافقت التيارات الماركسية والقومية، التي شكلت معظم الثقافة السياسية العراقية تاريخياً، في شيطنة العهد الملكي لتساهم في صناعة قطيعة نفسية ومعرفية مضرة بين العراقيين، وجزء مهم وتأسيسي من تاريخهم الحديث كشعب ودولة، ببناء الفكرة الوطنية التي انطوى عليها الاثنان.

يقتضي الإنصاف التأريخي هنا الإشارة إلى أن فكرة الوطنية العراقية وتشكل الدولة على أساسها ذات جذر بريطاني غير مقصود، بمعنى بروزها في سياق اعلانات بريطانيا وأخطائها السياسية والردود العراقية عليها سواء موافقةً او رفضاً، بين عامي 1917 و 1920. يختصر هذا التأريخ المعقد والمعبأ بالأحداث، بسنواته الثلاث، مقولةٌ مشهورة، دقيقة في وضوحها وبساطتها، للسيد علوان الياسري، أحد أبرز زعماء ثورة العشرين والساسة الفراتيين في العراق الملكي، وهو يحاجج ضابطاً سياسياً بريطانياً بعد أيام من اندلاع ثورة العشرين، إذ قال له "أنتم عرضتم علينا الاستقلال. لم نطلبه منكم ابداً، لم نكن نحلم به أبداً إلى أن جئتم ووضعتم الفكرة في رؤوسنا. عشنا مئات الأعوام في هذا البلد والاستقلال أبعد ما يكون عن مخيلتنا، ثم جئتم أنتم ووعدتمونا بالاستقلال، لكن في كل مرة نطالبكم به تسجنوننا!"

 كان تعهد قائد القوات البريطانية التي انتزعت بغداد من الجيش العثماني، الجنرال ستانلي مود، في إعلانه  في 19 آذار/مارس 1917 بمساعدة بريطانيا على اعادة بعث أمجاد "العنصر العربي"  وعيش الجماعات الموزعة جغرافياً من هذا العنصر في دولة واحدة "بحرية واستقلال،" هو الوعدَ الأول الذي أطلقته بريطانيا باستقلال مستقبلي لم تكن معالمه واضحة، خصوصاً وأن الحرب العالمية الاولى لم تزل مستعرة حينها.

ثم جاء الوعد الثاني أكثر وضوحاً وتحديداً عبر الإعلان البريطاني-الفرنسي في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1918 قبل 4 أيام من نهاية الحرب بانتصار الحلفاء.  ذكر هذا الإعلان أن هدف بريطانيا وفرنسا هو "التحرير الناجز للشعوب التي اضطهدها الأتراك طويلاً وتشكيل حكومات وإدارات وطنية فيها" على أساس "الاختيار الحر لسكانها المحليين،" خاصاً بالذكر "سوريا وبلاد الرافدين"، قبل ضم الموصل الى هذه الأخيرة. بخلاف إعلان الجنرال مود قبل عام ونصف الذي كان موجهاً لأهل بغداد، واشارته الى بغداد ومجدها السابق قبل الغزو المغولي بوصفها عاصمةً للدولة العباسية، من دون تحديد لكيفية انبعاثها من جديد، كان الإعلان البريطاني-الفرنسي موجهاً للعراقيين وأشار بوضوح إلى إنشاء حكومة وطنية في العراق باختيار أهله.

على الأرض، مضت الأشياء باتجاه مختلف عن وعود الحلفاء، إذ كانت الادارة العسكرية البريطانية في العراق تعارض هذه الوعود باعتبار أنها تحرك مشاعر وطموحات وطنية ستجعل عمل القوات البريطانية صعباً. على هذا الأساس، كان الجنرال مود نفسه ضد إعلانه الشهير في 19 آذار، لكنه أُضطر في آخر المطاف إلى إتباع الأوامر القادمة له من لندن التي بعثت له نص الإعلان الذي كان عليه أن يتلُوَه على البغداديين. وكذلك كان الحال مع نائب الحاكم العام، ارنولد ويلسون، الذي تولى فعلياً إدارة شؤون العراق بعد نقل رئيسه، الحاكم العام، بيرسي كوكس، إلى طهران في نهاية عام 1918. كان ويلسون، ومعظم أفراد إدارته، ينتمون فكراً واداءً إلى التجربة الهندية في الإدارة البريطانية، وهي تجربة تهيمن عليها أفكار الهيمنة الاستعمارية المباشرة التي سادت في القرن التاسع عشر ولا ترى في السكان المحليين القدرات السياسية والإدارية والذهنية اللازمة لإدارة شؤونهم بأنفسهم. فعلياً، حكم ويلسون وإدارته العراق أقل من عامين أنجز أثناءها الكثير إدارياً ومؤسساتياً، ولكن من دون توفير أفق سياسي لاستقلال مستقبلي أو حكومة وطنية. رافق هذا تردد بريطاني، بعد نهاية الحرب، بين الالتزامات الاخلاقية التي حملتها وعود الحلفاء بالاستقلال والدول الوطنية من جهة  والمصالح الاستراتيجية البريطانية-الفرنسية التي تطلبت هيمنةً مباشرةً على بلدان المشرق العربي التي انتزعها الحُلفاء من السيطرة العثمانية، من جهة أخرى.

كان نظام الانتداب في ظل عصبة الأمم هو التخريجة المناسبة لحل هذا التناقض بين الالتزامات الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية، إذ اشترط ، حسب المادة الثانية والعشرين من ميثاق العصبة، "مساعدةَ" الدول المنتصرة في الحرب للبلدان المُحَررَة من السيطرة العثمانية في تحقيق الاستقلال النهائي من خلال الإشراف على إدارتها لفترة مؤقتة من أجل تدريب السكان المحليين على ادارة شؤونهم بأنفسهم بعد نهاية هذا الإشراف حسب معايير وضعتها عصبة الأمم وراقبت تنفيذها. هكذا حافظ نظام الانتداب على وعد الاستقلال والدولة الوطنية كهدف، لكنه اجلَّ تحقيقه باشتراطه فترة إشراف انتقالي بريطاني في حالة العراق. عراقياً، ومنذ تصاعد الحديث عن نظام الانتداب في عام ١٩١٩ واحتمال تطبيقه في العراق، أخذ الغضب الشعبي يزداد ضد بريطانيا، مقروناً بتذمر متزايد من أخطاء وصرامة إدارة ويلسون في البلد، خصوصاً في مناطق الفرات الاوسط حيث شدة تطبيق قوانين الضرائب إذ كان نحو ٣٠ بالمئة من الإنتاج الزراعي عموماً يذهب للضرائب وهي ذات النسبة التي كانت سائدة في العهد العثماني لكن عادةً ما كانت السلطات العثمانية تفشل في استحصالها بعكس النجاح البريطاني في هذا الصدد. هذا فضلاً عن إجراءات السخرة وسوء تعامل بعض الحكام السياسيين البريطانيين مع السكان المحليين تعمداً أو جهلاً.

ساهم إعلان الانتداب رسمياً على العراق في نهاية نيسان/ابريل 1920، قبل شهرين من اندلاع ثورة العشرين، في إنضاج تحالف استقلالي عراقي واسع ضد البريطانيين، بدأ تشكله في 1919، مُحفزاً بخليط من مشاعر وطنية وإيمانات دينية ومظالم محلية. ضم هذا التحالف أفندية المدن، بغداد خصوصاً، والزعامات العشائرية في الفرات الأوسط ورجال الدين في كربلاء والنجف. ساهمت أخطاء إضافية ارتكبها ويلسون بعد إعلان الانتداب، خصوصاً إعتقال ونفي بعض زعمائها الحركة الاستقلالية وناشطيها، في تصعيد التحشيد الشعبي ضد البريطانيين، إلى أن كانت حادثة الرميثة المشهورة الشرارة التي أشعلت نيران الثورة.

بعد خمسة أشهر من القتال في المناطق الريفية بين التشكيلات العشائرية والقوات البريطانية، انتهت ثورة العشرين بفشل عسكري لأسباب مفهومة ومتوقعة. لكنها حققت شيئاً من هدفها السياسي المتعلق بالاستقلال، بإنهاء فرضية الحكم البريطاني المباشر أو غير المباشر وحسمت التردد البريطاني لصالح تشكيل سريع لدولة عراقية، بدأت بحكومة عبد الرحمن النقيب في نهاية 1920وتوجت بتنصيب فيصل الأول ملكاً في آب من العام التالي بعد إستفتاء نُظم باستعجال لدعم ترشيحه.

واقعياً، عنى تشكيل الدولةُ المَلكية العراقية في 1921 بإشراف بريطاني وباستقلال منقوص واضح، انتقالَ معركة إستقلال العراق من ساحات المواجهة العسكرية في المناطق الريفية في الفرات الأوسط الى أروقة الدبلوماسية والمناورات السياسية في بغداد ولندن. رغم طابعها السلمي، كانت هذه المواجهة شديدة وشرسة ايضاً واستمرت نحو 11عاماً، ابدى فيها الملك فيصل، ومعه الساسة الملكيون، براعة تثير الإعجاب انتهت بنيل العراق استقلاله في 3 اكتوبر عام 1932

يتبع..