في الوقت الذي يشكو فيه كثير من الصحفيين، ووسائل الإعلام التقليدية، من أن مواقع التواصل تسلبهم مهنتهم بأن أصبحت مصدرا رئيسيا للأخبار والمعلومات للجمهور الواسع، هناك صحفيون ومؤسسات إعلامية تحافظ على مهنة الصحافة بالفعل دون أن تلتفت لمواقع التواصل سوى كوسيلة لتسهيل عملهم.

لا جدال حول أهمية التطور التكنولوجي، وضرورة الاستفادة منه وتشجيعه، إنما التسليم بأنه يحول أصحاب المهن التي يفترض أن تستفيد من هذا التطور إلى عاطلين عن العمل فهو نوع من "الاستسهال" والتخلي عن بذل الجهد ثم إيجاد "شماعة" لتلقي عليها بأسباب الفشل.

ومن علامات الكسل أيضا، ومحاولة تبرير تقاعس الصحفيين ومؤسساتهم، ترديد أن "الكل الآن يلجأ لمواقع التواصل، حتى المصادر". لا يمكن لوم المصادر أنها تستخدم وسيلة تواصل متطورة تكنولوجيا طالما تؤدي الغرض في توصيل رسالتها خاصة وأنها لا تجد أي "قيمة مضافة" من وسائل الإعلام التقليدية. فما على الصحافة نفيها إلا أن تضاعف جهدها لتثبت أنها "تضيف"، سواء للجمهور أو صانع القرار – أي طرفي الرسالة الإعلامية.

وما تطور الإنترنت ومواقع وتطبيقات التواصل إلا أداة جديدة على الصحفيين ومؤسساتهم الاستفادة منها لنقل المحتوى الذي ينتجون أو الترويج له. لكن ما يحدث في أغلب الأحيان الآن هو "إعادة تدوير" لما على الإنترنت ومواقع التواصل وبالتالي التخلي عن إنتاج محتوى صحفي حقيقي. وهناك خلط يؤدي إلى تشويه المهنة، فالصحفي ليس ناشطا سياسيا ولا هو "مؤثر" مواقع تواصل، وما أدى إلى تدهور المهنة في أغلب الأحيان هو سعي الصحافة لمنافسة منتجي محتوى مواقع التواصل فتتحول الصحافة إلى مسخ وترويج تسويقي فاشل.

هناك بالطبع أمثلة على صحفيين ومؤسسات صحفية تقليدية استفادت من تطور الإنترنت ومواقع التواصل لتعزيز المهنة وتطويرها.

هذا الأسبوع كشف الصحفي دان ماكروم، من الفاينانشيال تايمز، عن مشوار تغطيته لواحدة من أكبر فضائح الشركات المالية الأوروبية، "وايركارد"، منذ 2014. وكانت قمة التغطية تقاريره العام الماضي التي أدت إلى انهيار الشركة مع بدء السلطات الألمانية التحقيق في فساد بالمليارات في أعمالها حول العالم.

مشوار طويل من الأخبار، ومحاولات الشركة رشوة الصحفي والصحيفة إلى التهديد القضائي وتوظيف شركات محاماة لإرهاب الصحيفة والصحفي وتوظيف شركات علاقات عامة يعمل بها عملاء سابقون في أجهزة أمن (منهم الليبي رامي العبيدي) لتوريط الصحفي والصحيفة.

لكن الصحفي الواثق من عمله ومهنته، يبحث وينقب – من مصادر أولية حقيقية، وليس من الإنترنت ومواقع التواصل – ويجري المقابلات حتى يقع على ما يثبت شكوكه بالوثائق. حتى البنك الرئيسي المنكشف على الشركة بنحو 4 مليار دولار ديون (لعلها أصبحت معدومة) والذي حاول أن يثني الصحفي في مشوار متابعته الإخبارية أصبح مدينا الآن له ولصحيفته.

ليس هذا المثال الوحيد، وهناك أمثلة تتكرر يوميا في مؤسسات صحفية تقليدية تلتزم بأصول وقواعد المهنة وتشجع صحفييها وتساندهم. وهذا ما يبقي الصحافة مهمة ويعزز دورها. هذا الدور الذي انتبه له العالم كله، بما فيه من كانوا يرون أن مواقع التواصل حلت محل الصحافة، مع أزمة وباء كورونا وحاجة السلطات الرسمية لقناة توصل رسالتها للجمهور على عكس مواقع التواصل التي امتلأت بالأكاذيب والتضليل والدجل ونظريات المؤامرة.

لكن للأسف، لم تستثمر الصحافة تلك النافذة المهمة وتعمل على تعزيز مكانتها ودورها وتؤكد أهميتها للجمهور أولا وللسلطات والأعمال ثانيا. وربما كان السبب هو استكانة كثير من الصحفيين إلى أن "مواقع التواصل أخذت وظائفنا".

الصحيح أن مواقع التواصل تساعد الصحافة وتكمل مهمتها، إذا تم التعامل معها على هذا الأساس. لكن المهم أن تقدم الصحافة اضافة، وبالتالي على الصحفي ألا يتخلى عن قواعد العمل الأساسية وبذل الجهد والتدقيق والاطلاع لتقديم محتوى يستحق. وأول شيء، ألا يتعامل مع مواقع التواصل على أنها "مصدر" أبدا. فليس أسهل من التلفيق والتزوير والدس المعلوماتي عبر الإنترنت.

ولقد عانى صحفي الفاينانشيال تايمز من حملة منظمة على مواقع التواصل من حسابات مأجورة لتشويه سمعته وإثنائه عن نشر تقاريره، اتضح بعد ذلك أنها حسابات مستأجرة من "وايركارد".

وعلى مؤسسات الإعلام التقليدي أن تدعم صحفييها وتشجعهم على انتاج محتوى به "قيمة مضافة"، رغم ما قد يكون لذلك من كلفة إلا أنه في النهاية يبني مصداقية لا تقدر بالمليارات حين الحاجة إليها وسط الزيف والتضليل الخطر على الإنترنت.