في العادة تثير الزيارات الرئاسية العراقية لأميركا الكثير من الجدل العراقي بخصوص أميركا ومعناها في العراق وقدراتها المفترضة على القيام بالأشياء أو افشالها.
زيارة رئيس الوزراء العراقي مؤخراً، مصطفى الكاظمي، للولايات المتحدة الأميركية، كانت إحدى مناسبات هذا الجدل الذي تتصاعد فيه المقولات المعتادة، والمتناقضة أحياناً، بخصوص أميركا في العراق والدور الذي تلعبه فيه.
في العموم تنحصر معظم هذه المقولات إما بفهم تبسيطي، هو الغالب، لأميركا، بوصفها قوة عظمى، وشريرة لا تريد الخير في أي مكان تدخل فيه ولا تترك إلا الدمار بعد خروجها منه، أو آخر براغماتي يؤمن هو الآخر بقوة أميركا الهائلة لكنه يدعو إلى تطويع هذه القوة لخدمة المصالح العراقية باعتبار أن السياسة هي عبارة عن تخادم متبادل على أساس مصالح مشتركة وليست تحالفاً أخلاقياً بين شركاء متشابهين فكرياً.
هذا الفهم الثاني حديث نسبياً في العراق ويمثل رأي أقلية كبيرة نسبياً آخذة بالاتساع بسبب حركة الاحتجاجات، وهو بشكل عام يتحدى الفهم الأول الاختزالي العميق الجذور في السياسة والثقافة في العراق..
منذ تأسيس الدولة الوطنية العراقية في 1921، لم تكن أميركا محل قلق عراقي، بل على العكس من ذلك كانت محط ترحيب نخبوي وشعبي في السنوات القليلة التي سبقت تشكل هذه الدولة، إذ كان إعلان مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الأربع عشرة في بداية عام 1918 التي تضمنت حق تقرير المصير لشعوب البلدان التي تحررت من السيطرة العثمانية أحد مصادر إلهام العراقيين التي حفزتهم لرفض خطط السيطرة البريطانية المباشرة على البلد وصولاً إلى إعلان ثورة العشرين.
مثلت نقاط هذا الإعلان ضربة حقيقية لمنظومة الانتداب التي شكلتها بريطانياً وفرنسا وتبنتها عصبة الأمم كبديل مناسب للاستعمار التقليدي المباشر الذي ساد في القرن التاسع عشر، لكن رفض مجلس الشيوخ الأميركي في آذار (مارس) 1920 انضمام الولايات المتحدة لعصبة الأمم، بخلاف رغبة الرئيس ويلسون القوية، سهل إمرار الخطط الفرنسية-البريطانية بخصوص تطبيق الانتداب الذي أقره رسمياً مؤتمر سان ريمو في نيسان (أبريل) 1920.
على مدى عقود العراق الملكي، كانت الولايات المتحدة صديقاً للعراق منذ اعترافها بالدولة الجديدة في 1930 وإقامتها علاقات دبلوماسية معها، لكن بقي الاهتمام الأميركي محدوداً بالعراق الذي اعتبرته أميركا منطقة تابعة للنفوذ البريطاني لا ترغب بمزاحمته أو الدخول في صراع معه، بل كانت أكثر ميلاً لتأييد هذا النفوذ باعتبار العراق، في ظل الهيمنة البريطانية، ملكية دستورية على المنوال الغربي.
لم يحتل العراق أهمية سياسية أميركياً إلا في عقد الخمسينات بعد بدء الحرب الباردة في نهاية الأربعينات بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.
اعتبر الأميركان، ومعهم البريطانيون، العراق جزءاً من حزام إسلامي جنوبي ضم أيضاً تركيا وباكستان وإيران يمنع تمدد الشيوعية الى مناطق الشرق الأوسط.
من هنا جاءت فكرة "حلف بغداد" في 1955 لتشمل بريطانيا مع هذه البلدان الحليفة للغرب، رغم المعارضة الشعبية العراقية الشرسة لهذا الحلف بوصفه إذعاناً مذلاً للمصالح الغربية على حساب المصالح العراقية.
برز الدور الأميركي في شؤون المنطقة في إطار سعي الولايات المتحدة منع انتقال مصر الناصرية إلى المعسكر الاشتراكي بعد عقد عبد الناصر صفقة شراء أسلحة سوفياتية عبر جمهورية تشيكوسلوفاكيا الشيوعية في منتصف الخمسينات ما اعتبر كسراً للاحتكار الغربي لتوريد السلاح إلى دول الشرق الأوسط، ليتبعه إلغاء البنك الدولي، بتأثير أميركي، قرضاً لمصر لبناء السد العالي.
دفع هذا الإلغاء مصر أكثر نحو المعسكر الاشتراكي الذي تولى فيما بعد تمويل بناء هذا السد الضخم. ورغم أن الضغط الأميركي، متزامناً مع ضغط سوفياتي شبيه، على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لعب دوراً اساسياً بإفشال الاعتداء العسكري الذي شنته هذه الأطراف الثلاثة ضد مصر في 1956 فيما عرف بالعدوان الثلاثي بعد تأميم الاخيرة لقناة السويس، لم تتحسن السمعة الأميركية كثيراً في العراق والشرق الأوسط العربي، إذ سرعان ما أُرسل المارينز الأميركي إلى لبنان في اليوم التالي لإسقاط الملكية العراقية للإبقاء على لبنان، الذي كان يمر باضطرابات داخلية، حليفاً للمعسكر الغربي واحتواء الآثار المقلقة غربياً من سقوط النظام الملكي في العراق، الذي كان حليفاً للغرب أيضاً.
مع ذلك، يمكن اعتبار الستينات، التي هيمنت فيها القومية العربية، عقد صعود الكراهية والعداء للولايات المتحدة في العراق وبقية العالم العربي بسبب الموقف من إسرائيل. ففي هذا العقد تحول الدعم الأميركي لإسرائيل، في ظلت إدارة الرئيس جون كنيدي، من دعم إنساني ومحدود عموماً (قروض لشراء مواد غذائية في الغالب) إلى آخر عسكري واستراتيجي بسبب الإدراك الأميركي المتزايد لأهمية إسرائيل كحليف مهم في الحرب الباردة ضد المعسكر الاشتراكي.
بذلك أنهى الرئيس كيندي حظر بيع السلاح لإسرائيل الذي اتبعته إدارتا الرئيسين هاري ترومان ودوايت ايزنهاور منذ نهاية الأربعينات وطوال الخمسينات، ونعت العلاقة بين بلاده وإسرائيل بـ"العلاقة الخاصة" وأعلن لأول مرة عن التزام أميركا بالدفاع عن أمن إسرائيل ووجودها.
هكذا، منذ عقد الستينات استبدلت أميركا تدريجياً فرنسا التي كانت، على مدى الخمسينات، المورد الرئيسي للسلاح لإسرائيل، ليزداد بعدها التحالف الأميركي-الإسرائيلي عمقاً عبر الإدارات الأميركية المتعاقبة وتزداد معه الكراهية العربية لأميركا.
تاريخياً وباستثناء تيار ليبرالي ضعيف فيها، وبرغم خلافاتها الكثيرة، توحدت الثقافة السياسية العراقية بتياراتها الأساسية الماركسية والقومية والإسلامية، في الارتياب بالولايات المتحدة وإعلان العداء لها، سواء تحت مسمى الإمبريالية الأميركية الذي تبناه الماركسيون والقوميون أو الاستكبار العالمي الذي تبناه الإسلاميون العراقيون متأثرين إلى حد كبير بالثورة الإيرانية في 1979 التي أعلنت مبكراً خصومتها مع الولايات المتحدة بوصفها الشيطان الأكبر.
هذا فضلاً عن تعبئة إعلامية مناهضة للولايات المتحدة اتبعتها الحكومات الجمهورية العراقية المتتالية بعد سقوط الملكية إلى نهاية عهد صدام حسين.
منذ عقد الثمانينات أضافت أخطاء السياسة الأميركية في العراق المزيدَ من الغضب الشعبي نحو أميركا، بدءاً من تحالف الأخيرة المصلحي والضيق الأفق مع نظام صدام في حربه ضد إيران وتجاهلها طابعه القمعي الشديد الوحشية وانتهاءً بمعاقبة هذا النظام بعد غزوه الكويت من خلال منظومة عقوبات دولية قاسية استهدفت العراقيين العاديين من ضحايا النظام أكثر من استهدافها النظام نفسه.
عندما شرعت أميركا بإسقاط نظام صدام حسين في 2003، كان الإنهاك الشعبي العراقي بعد عقد ونصف وتقريباً من العقوبات الدولية الصارمة شديداً والرغبة برحيل النظام عامة وواسعة.
برغم آثامها العراقية السابقة، لقيت أميركا في الأشهر الأولى لإسقاطها حكم صدام قبولاً عراقياً، إن لم يكن ترحيباً حذراً. لكن تتابع الأخطاء الأميركية في إدارة العراق وظهور نتائج هذه الأخطاء على الأرض أفقدت الأميركان الكثير من التعاطف الشعبي والسياسي العراقي.
مع ذلك، برغم الأخطاء الأميركية الفادحة في العراق، كانت الأخطاء العراقية بحق العراق أشد فداحة من نظيرتها الأميركية، بل متسقة ومتواطئة معها، في ظل تنصل عراقي تال، شعبي وسياسي، عن المسؤولية في تحمل هذه الأخطاء. فحل الجيش العراقي مثلاً كان قراراً أميركيا خاطئاَ لكنه كان مدعوماً بإجماع معظم الزعماء السياسيين العراقيين حينها الذين كانوا يحثون الأميركان على تطبيق هذا القرار.
ذات الأمر ينطبق على قرار اجتثاث البعث الذي اتخذه الأميركان كوسيلة انتقالية لحل مظالم العهد السابق من خلال محاسبة كبار البعثيين فقط، لكنّ الساسة العراقيين وسعوه وحولوه إلى أداة منهجية للانتقام من الخصوم السياسيين وابتزازهم.
أما المحاصصة، أو التقاسم الإثنو-طائفي للسلطة الذي دعا له الأميركان باسم احترام التنوع وبناء الثقة في البلد، فكان أصلاً قراراً اتخذته المعارضة العراقية قبل سقوط صدام وسعت بشدة إلى تطبيقه عندما اصبحت في الحكم، وحظي بدعم شعبي كبير تحت عنوان التمثيل السياسي المشروع عبر الهويات المذهبية والأثنية. لكن يبقى الإثم الأكبر عراقياً وليس أميركياً: النهب العام للموارد وتحويل مؤسسات الدولة إلى اقطاعيات حزبية تعنى بمصالح الساسة وليس الشعب.
باستثناء أقلية شجاعة لم يُسمع صوتها في أثناء سنوات التخدير المذهبي والعرقي، لم ينبته العراقيون، إلا متأخراً، إلى نتائج الانقياد لطبقة سياسية أنانية كانت تَبرُع في لوم الآخرين، أميركا وغيرها، على أخطائها وفي التنصل من مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية في صناعة الخراب الحالي.
كان التصاعد المضطرد للاحتجاجات الشعبية منذ 2011 إعلاناً عن صحو عراقي تدريجي اكتمل باحتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) 2019 التي شددت على أن المسؤولية عن الخراب عراقية وأن الإصلاح عراقي أيضاً.
من هنا يمكن القول إن هذه الاحتجاجات، في أحد أوجهها المهمة المتعلقة بالتفكير في مستقبل البلد، هي انتصار لبراغماتية وطنية غير مهتمة بالتمترس أيديولوجياً وراء عداء أميركا أو غيرها من الفاعلين الدوليين أو الاقليميين، ما دام هؤلاء الفاعلون لا يقفون بوجه الإصلاح العراقي الجذري الذي تسعى إليه حركة الاحتجاجات.
المصالح الوطنية وليس المشاعر الأيديولوجية هي التي ينبغي أن تكون البوصلة العراقية في التعاطي مع أميركا وغيرها من دول المنطقة والعالم.