لم تقل المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري كلمتها وفق التوقعات الهوليوودية التي كان ينتظرها البعض.
لاح في مطالعة الإدعاء العام العام الماضي أن المحكمة قد تذهب إلى اتهام حزب الله بالوقوف وراء الجريمة مباشرة، بيد أن طبيعة المحكمة والشروط الدولية التي فُرضت في مجلس الأمن للإفراج عن ولادتها، دفعت القضاة إلى إصدار حكمهم في 18 من الشهر الجاري حاصرين الذنب بشخص واحد لا شريك له.
قدمت المحكمة مطالعة تقنية دقيقة تاركة لأهل السياسة أن يجتهدوا في تفسير حيثياتها وأن يستنتجوا مآلاتها. ففي اتهام المحكمة للقيادي في حزب الله سليم عياش بارتكاب الجريمة من ألفها إلى يائها، فإنها في ثنايا الأمر توجه الإتهام إلى المنظومة التي ينتمي إليها المتهم بدءا من إعطاء أمر الاغتيال إنتهاء بتوفير متطلبات عملية تنفيذها المالية والأمنية واللوجيستية والإعلامية. بكلمة أوضح أبلغت المحكمة المجتمع الدولي الذي كلفها بالملف أن حزب الله قتل رفيق الحريري.
لطالما ردد أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله أن المحكمة مسيّسة ومنحازة ومشكوك في مراميها وأن حزبه غير معني بها ولن يتعامل مع ما يصدر عنها قبل الحكم وبعده. وقد يقول قائل إن المحكمة قد تكون فعلا مسيّسة لجهة تجنبها الذهاب مباشرة إلى اتهام حزب الله رغم أن نص الاتهام أشار بشكل جلي إلى سيرة ما قبل الجريمة التي تقود إلى استنتاج لا لبس فيه باستفادة حزب الله ونظام دمشق من تصفية الزعيم السني الكبير في لبنان.
في الجدل حول سياسيوية حكم المحكمة الدولية أيضاً أن حزب الله لم يكن ليرتكب جريمة بهذا المستوى دون إرادة إيران وبركة الولي الفقيه للجمهورية الإسلامية. وعلى هذا فإن عياش نفذ أوامر حزبه الذي يأتمر، باعتراف الحزب الله نفسه، بإرادة مرشد الثورة في إيران. وعلى هذا أيضا فإن المحكمة التي انشأها مجلس الأمن عام 2007 دون أي اعتراض من أعضائه (رغم امتناع الصين وروسيا وقطر وأندونيسيا وجنوب أفريقيا عن التصويت)، تبلغ المجلس من خلال أحكامها أن إيران وجّهت باغتيال رفيق الحريري عام 2005.
لا تقفل المحكمة ملف الجريمة، ذلك أنها تفتح باب استئناف الحكم -هذا إذا قررت هيئة الدفاع عن المدان اللجوء إلى ذلك- وتواصل أعمالها للكشف عن قضية اغتيال السياسي جورج حاوي ومحاولة اغتيال الوزيرين السابقين مروان حمادة وإلياس المر، علما أن الإدعاء كان اتهم أيضا سليم عياش بارتكاب كل هذه الجرائم. وفي هذا أن ما ستنتهي إليه التحقيقات قد لا تكون بعيدة عن المناخ الدولي المقبل حيال إيران وحزبها في لبنان.
لم ينفك حزب الله عن تكرار التمسك ببراءته من ارتكاب الإثم الشنيع. كان موقف البيئة الحاضنة للحزب منقسماً بين مصدّق لرواية الحزب مؤمن بعفافه وغير مصدق لكنه موقن أن الجريمة صنف من صنوف الجهاد ضد "الاستكبار" والصهيونية. وأيا تكن قناعات تلك الحاضنة فإن ما صدر عنها من فرح وشماتة كلما سقط خصم سياسي للحزب يوحي بأن الحاضنة جاهزة دون تحفظ لمباركة أي جرائم يرتكبها حزبها الذي لا ينتج إلا أشرف الناس وقوافل القديسين (وفق وصف أمينه العام للمتهمين في المحكمة الدولية).
يُفترض أن الأمر مختلف الآن أو يُفترض أن يختلف. المحكمة الدولية أبلغت شيعة لبنان عامة ومناصري حزب الله خاصة أن حزبهم قتل رفيق الحريري وأدخل البلاد بسلوكه مذاك في مسلسل انهيار منظم وصل بلبنان إلى الكارثة الاقتصادية الراهنة والفاجعة التي ألمت ببيروت وأهلها. والحدث عظّم ألماً موجعا داخل الطائفة التي نالت منها أزمة البلد وباتت مدركة أن ظاهرة دويلة حزب الله فقدت وظيفتها كرافعة للشيعة وباتت وصفة تدفع بهم وببلدهم إلى المحرقة الكبرى.
على أن المفاعيل السياسية لحكم المحكمة سيظهر قريبا. في التحليل تساؤل حول ما إذا كان الجانب السياسوي في شكل الحكم لجهة الامتناع عن توجيه أي اتهام لمرجعية القاتل ومرجعية مرجعية القاتل ما يؤشر إلى أن الأمر تفصيل داخل شبكة تسويات قادمة. قد يظهر ذلك جليا في شكل الحكومة المقبلة وهوية رئيسها وموقف الحزب من دوره فيها أو خارجها. بدا وكأن أمرا ما قد دُبر ما بين التوقيت الأصلي للنطق بالحكم في 7 والتوقيت الفعلي في 18 اغسطس الجاري، لتضيف كارثة بيروت عاملا دراماتيكيا صاعقا تتصاعد مفاعيله، بحيث يقبل سعد الحريري، نجل الراحل، حكم المحكمة دون تحفظ، مقابل دعوته لحزب الله إلى تقديم "التضحيات".