حذر كثيرون، بينهم كاتب السطور، من تدهور الأوضاع في العراق إن بقيت الدولة عاجزة عن مواجهة المليشيات المسلحة التي تدعمها إيران، وقالوا إن الدولة العراقية تواجه خطر التفكك إلى مجاميعَ ومناطقَ ومحمياتٍ متناحرة، وإن هذا ليس في مصلحة العراقيين ولا في مصلحة شعوب المنطقة، ولا حتى الذين يدعمون الجماعات المسلحة بدوافع عدوانية وثأرية.
إلا أن التفكك قد بات على الأبواب الآن، عندما بدأت المليشيات تقتل وتخطف من تشاء في المدن والمؤسسات والشوارع، بل أصبحت تعتدي على المسؤولين وتبتزهم وتهددهم، وتتحدى حتى رئيس الوزراء عندما يتخذ قرارا يؤثر على مصالحِها ونفوذِها. كما أصبح القادةُ العسكريون يعصون أوامر قادتِهم، حتى في أحلكِ الظروف، خوفا من ردود أفعال المليشيات، كما فعل أحد كبار الضباط مؤخرا، والذي يحظى باحترام واسع في العراق، عندما تجاهل أمر القائد العام له، وأحسب بأن هذا العمل سوف يفقِده الكثير من الاحترام الذي يتمتع به حاليا.
الوزراء الآن يأتمرون بأمر المليشيات، وليس بأمر رئيس الوزراء، والمسؤولون لا يلتزمون بالقانون بل بالأوامر التي تصدر لهم من المسلحين، بينما المعارضون أو المنتقدون يُقتَلون في أبوابِ منازلهم أمامَ أعينِ أطفالِهم، وفي مكاتِبِهم وسطَ المدنِ وأمامَ أعينِ زبائنِهم وباقي أفراد الشعب، أو يُختَطَفون من الساحات والشوارع والمنازل، ويصبحون أثراً بعد عين. أما الحكومة، فترد على ذلك بتشكيل لجنةٍ للتحقيق في المسألة، وينتهي الأمر عند هذا.
قبل أيام اغتيل الناشط المدني ومهندس الاتصالات، تحسين أسامة، في مكتبه وسط البصرة في وضح النهار وأمام أعين الناس جميعا، ولم يكن القتلةُ خائفين من أحد، فقد نفذوا العملية بسهولة ودون عجلة من أمرهم، بل كانوا يتمتعون بالثقة الكاملة بأنهم فوق القانون، ولن يكون هناك من يتابعهم أو يعاقبهم على فعلتهم الشنيعة تلك. وقبل هذه الحادثة، قُتل العشراتُ من الناشطين، نساءً ورجالا، علنا وفي وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد، وكان أبرزَهم سعاد العلي وأحمد عبد الصمد.
ومقابل هذا الاستهتار، من قبل المليشيات والدولة الداعمة لهم، وعجزِ الدولة العراقية عن مواجهتها، وصمت المرجعيات الدينية على هذه الأوضاع المزرية التي ستقود إلى مزيد من التدهور، الذي سيطالُ الجميع، مواطنين ومؤسساتٍ ومنظماتِ مجتمعٍ مدني، انتخى رجالُ العشائر كي يحموا الناس من هذه الجرائم المجانية التي تحصد مثقفي العراق وخبرائه وطلابه وعماله وصحفييه وقادة الحاضر والمستقبل فيه. فقد اجتمع قادة عشيرة بني تميم في أحد مضائفها في البصرة، كي يبحثوا كيف يمكنهم أن يحموا الأهالي في المدينة، في ضوء عجز الحكومة عن أداء واجبِها الأساس.
وقال النائبُ السابق في البرلمان العراقي، منصور الكنعان، وهو أحد شيوخ قبيلة بني تميم المنتشرة في كل أنحاء العراق، في فديو مصور "إن الحكومة باتت غير قادرة على حماية المواطنين، ونحن ملزمون ومجبرون على تشكيل فصائل مسلحة لحماية المدينة وأهلها ضد الفساد والمفسدين".
وأضاف الكنعان أن الفصائل المسلحة التي ستشكلها قبيلته ستكون "سندا لمن لا سند له"، وأعلن بأن تميم لا تخشى أحدا، وهي إن اضطرت فسوف تحارب بقوة. وكان الشيخ الكنعان قد تعرض لمحاولة اغتيال على أيدي "مجهولين" لكنه نجا منها. ويُتَوَقع أن هؤلاء "المجهولين" هم من المليشيات التابعة لإيران، التي لا ترغب بأن ترى مستقلين يتحدونها أو غير خانعين لها. وأحسب أن إعلان الشيخ منصور الكنعان بأنه سيحمي الأهالي وسيكون (سندا لمن لا سند له) سيكسبه شعبية أكبر في البصرة وعموم العراق.
وعلى الرغم من أن اللجوء إلى تشكيل الفصائل المسلحة خارج أطار الدولة، هو عمل يتعارض مع منطق الدولة الحديثة، التي يفترض أن لديها جيشا وشرطةً وأجهزةً أمنية تحمي المواطنين من المجرمين والمتجاوزين، إلا أنه عملٌ اضطراري للدفاع عن النفس ضد استهتار المليشيات، وقادتها وداعميها، بالقانون والدين والأعراف، وإهانتِهم مؤسسةَ الدولة كل يوم، واستهانتها بالنفس التي حرّم الله المساسَ بها.
الدفاع عن النفس واجب مقدس يتقدم على كل مبدأ آخر، وهو أمر تقِرُّه كلُّ الأديان والقوانين والأعراف، وما تعتزم قبيلةُ تميم أن تفعله، كان متوقعا، بل جاء متأخرا، فالمليشيات تعبث بالعراق منذ أن أجاز (البرلمان) عملَها وشرّع تمويلَ منتسبيها، وأبقى على قادتِها المرتبطين بإيران، يتحكمون بقوى عراقية رسمية، وفقَ أجنداتٍ تتعارضُ وعملَ الدولة.
وفي الناصرية المجاورة للبصرة، اجتمع أيضا شيوخ العشائر وطالبوا بتسليم أحد قادة الجيش، وهو الفريق جميل الشمري، الذي قتلت قطعاته خمسين محتجا من أهالي الناصرية في نهاية تشرين الثاني الماضي، بأمرٍ من رئيسِ الوزراء آنذاك، عادل عبد المهدي، إلى القضاء. وقد طالب الأهالي منذ وقوعِ تلك المجزرة بمحاسبة القتلة، ولكن دون جدوى، وهاهم الآن يتناخون كي يأخذوا حقهم بأيديهم، فهذا ما يحصل عندما تتراجع الدولةُ وتطغى لغةَ السلاح على لغةِ القانون والمنطقِ والعقل.
لاشك أن عشائرَ أخرى وجماعاتٍ مدنيةً في عمومِ العراق، سوف تنتصر لأنفسِها وأتباعها وتشكل فصائلَ مسلحةً كي تحميَ أبناءها من تعسفِ المليشيات واستهتارِها وجرائمِها، وعندها لن تكون هناك دولة حقيقية في العراق، بل حتى ما نراه اليوم من مؤسساتٍ ووزاراتٍ تابعةٍ للدولة، سوف يختفي لأن الفصائل المسلحة المختلفة، سوف تحتاج إلى التمويل وعندها سوف تسيطر على موارد الدولة، كي تدفع لمسلحيها، وتنفق على الخدمات التي تقدمها للناس كي تحظى بتأييدها.
وحتى النفط الذي تصدر معظمَه الدولةُ حاليا، ويصدر الجزء الآخر منه عصاباتِ وجماعاتِ مسلحة وعائلاتٍ سياسية، فإنه سيصبح تحت سيطرة الفصائل المسلحة.
وعندما تتدنى إيراداتُ الدولة، تتدنى معها خدماتُها جميعُها، بما في ذلك حفظُ الأمن وأداءُ المؤسسات التعليمية والصحية والبلدية.
إقليم كردستان الذي يتمتع بقدر من الاستقرار هو الآخر سوف يتضرر، لأن مواردَه الذاتية، من نفطٍ وإيراداتِ المنافذ الحدودية والضرائب، والتي يحتفظ بها حاليا، مضافا إليها النسبة المخصصة له من ميزانية العراق، البالغة 17%، لن تكون كافيةً لأن تدني موارد الدولة يعني أن هذه النسبة سوف تتقلص تدريجيا بل قد تختلفي كليا.
صحيح أن الإقليم ربما يكسب تعاطفا دوليا، وربما اعترافا بإقامة دولة كردية مستقلة، باعتبار أن الدولة العراقية لم تعد قائمة فعليا، خصوصا مع انتشار الفصائل المسلحة التي ستجد من يدعمها ويمولها من الدول الاخرى، لكن قادته يعلمون أن موارد الإقليم حاليا أعظم بكثير مما لو أصبح دولة مستقلة، وأن دولة كردية محاطة بدول غير مستقرة أو معادية لها، لن تخدم شعبها مطلقا لأنها ستنفق معظم مواردها على التسلح.
لذلك فإن الأفضل لمستقبل الإقليم والشعب الكردي، هو أن يعمل على تقوية الدولة العراقية الاتحادية. أما استغلال ضعف الدولة، إن ارتكبه قادةُ الإقليم، فهو خطأٌ استراتيجي مدمر. الأكراد سيتضررون إن ضعفت الدولة العراقية، وهذا مؤكد وعليهم إدراك ذلك.
العراق في خطر، وإن لم يهِبّْ المجتمع الدولي ودول المنطقة لمساعدته والإبقاء على ما تبقى من الدولة، فإن المستقبل لا يبشر بخير، ليس للعراقيين فحسب، بل لكل شعوب ودول المنطقة. لقد بلغ سكان العراق 40 مليونا حتى الآن، وهؤلاء إن غابت الدولة عن تنظيمهم وحمايتهم، فإنهم سيربكون المنطقة كلها، ويتحولون أما إلى لاجئين أو إلى مسلحين، والضرر يتحقق في كلتا الحالتين.
والأخطر من هذا هو احتمال انتشار الأوبئة التي ستنتقل إلى دول أخرى. المؤسسات الصحية العراقية عاجزة عن القيام بواجباتها تجاه الناس، وهناك تحدياتٌ كبيرة لها، أولها هو الجهل وثانيها الفقر، الذي يجبر الناس على الخروج لكسب الرزق بأي وسيلة دون الاكتراث لجائحة كورونا ودون الالتزام بالمعايير الصحية المطلوبة.
العراق بحاجة إلى مساعدة جدية وعاجلة من المجتمع الدولي، للتخلص من الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، خلافا للقانون الدولي ومبادئ السيادة وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. لا يمكن تفعيل القانون وإقامة العدل وحماية الناس بوجود مليشيات مسلحة تهيمن على مفاصل الدولة وتقتل وتخطف وتبتز من تشاء. في خلاف ذلك، فإن العراقيين سينتظمون في فصائلَ مسلحةٍ لحماية أنفسهم، وعندها سنقول وداعا للدولة العراقية.