الواقعيّة السحرية، أم سحرية الواقع؟

من الطبيعي أن تكون الواقعية سحرية، مادام قبول الواقع رهين سحر.

فالواقع، في عرفنا، دوما حرف. حرفٌ في البعد الذي أدانه القدّيس في وصيّته الخالدة: "الحرف يُميت، ولكن الروح تُحيي". فما دام الواقع مسكونا بالموت، فليس لنا إلاّ أن نستجير بالسحر لكي نسوّقه، بقطع النظر عن ماهيّة هذا السحر. ففي الإبداع السحر رهان من حيث المبدأ. السحر رهانٌ لا في حرفه، الذي تستنكره الأعراف السائدة، ولكن السحر رهانٌ في بُعده كشعر.

يحدث ذلك لخلع الشعرية على العقلية السحرية التي أُدينت عبر التاريخ بالمقياس الأخلاقي، لتجنّيها على سلطة واقع بشري يستهجن كل عمل شذّ عن الطبيعة، بالإحتكام إلى قوى ماوراء الطبيعة، لغاية تغيير ما بالواقع الطبيعي. هذه النزعة التي اعتمدت نهج التدخّل في غيوب ما يسمّيه "كانط": "النصف المظلم من عالمنا"، قوبلت بصنوف الإستنكار منذ ما قبل التاريخ، إلى الحدّ الذي عومل فيه رسول هذه النزعة، التي خلعنا عليها لقب السحر، بموقف ازدوجت فيه مشاعر الإكبار بنقيضها الإستنكار. إنه الموقف الملتبس من تلك المواهب، التي يتمتّع بها السحرة، فألهمت شبنغلر حكمه على الملّة التي احترفت تطويع معدن الحديد، لتستثير العامّة الذين سنّوا في حقّها ناموساً قريناً، لأن عمل هؤلاء، في نظرها، أيضاً رجسٌ من صنع السحر. ولهذا السبب الحدّاد دوماً مخلوقٌ مشبوه، كما الساحر، المثير للفضول، سواء بمواهبه في الكشف عن العلل، أو في مواهبه في استنطاق ما استوطن الغيوب. وقد رافق هذا الإزدواج العلاقة مع الساحر منذ ما قبل التاريخ حتى زماننا اليوم، مروراً بالقرون الستّة الماضية، التي شهدت ثورة الكنيسة الكاثوليكية ضدّ هذا النموذج الملتبس إبّان نشاط محاكم التفتيش، المستوحاة من بيان المجمع المسكوني الصادر في 1314م في حقّ السحرة، لتبدأ حملة البطش بكل من اشتبه في ممارسته لهذه الحرفة المثيرة للجدل، لتصدر الأبحاث المرجعية التي تبرّر الحملة مثل متون "شبرنغر"، أو الملك "جيمس ستيوارت"، أو "فايير".

وهي حملة لم تولد من عدم في واقع القبيلة البشرية، ولكنها تعود إلى مرحلة موغلة في القدم، كما تخبرنا الكتب المقدّسة، عندما التهمت عصاة موسى أفاعي كهنة الفرعون، في مباراة مجازية وضعت حداً لهيمنة حضارة الروح القرينة لعفويّة إنسان مصر القديمة، الحامل للواء هوية التكوين (لأن الحية هي رمز الروح في عقلية الميثولوجيا)، لتخلفها الحضارة المادية، المترجمة في حرف اختراعٍ جسور كالحديد، بوصف الحديد الكلمة الأولى في أبجدية السحر: السحر الذي يستعير مؤهلاته الخفيّة من سلطة أفران الجحيم.

وعندما نتغنّى بسحرية الواقع الإنساني، في بُعده الحرفيّ، أو الطبيعي، فإننا نتغنّى بسحرية الواقع الروحي أيضاً، لأنهما في ملحمة الوجود قطبان يلفّقان معاً كياناً واحداً. ففي حين يحترف الساحر اختراق ما حجبته الطبيعة في شقّها الحرفيّ، يقوم ساحرٌ آخر، هو الشاعر، باحتراف اختراق الحُجب في بعدها الروحي.

فالشاعر ساحر أيضاً، بقدر ما الساحر شاعر، والدليل هوَس الفريقين بالمعجزة التي نسمّيها: الكشف!

فالكشف هو الحلم الذي يهفو له الكلّ، ليغدو القاسم المشترك الأعظم في ممارسات أهل السرّ بمختلف أطيافهم، بدايةً بالساحر، ونهايةً بالشاعر، مروراً بالدرويش، لأنهم كلهم مفتونون بالوَجْد، بوصفه المفتتح في بوّابة فردوسٍ إسمه الكشوف. أو ما راقني أن أسمّيه: البُعد المفقود، المغترب عن صفحة الوجود. وهو الهوس الذي يحيا في روح كل إنسان تمرّد على مشيئة طينته الطبيعية، وتاق لتحرير نفسه ليحيا بعثه الثاني، كترخيصٍ وحيدٍ لارتياد ملكوت الربّ.

ففي تحدّي الكشف تقف اللغة حارساً سخيّاً يستطيع دوماً أن يجود بالتعاويذ المؤهّلة لتفكيك شفرة أي مفهوم مستغلق.

فإسم الساحر، في لغة مصر القديمة، هو: أتب، أو يوتب، التي تعني في اللغة الليبية القديمة: الكاشف، كما ما تزال تجري على لسان أحفاد هذه الأمّة الأسطورية في الصحراء الكبرى إلى اليوم. فلماذا تنعت المصرية الساحر بـ الكاشف؟ ببساطة، لأن رسالة الساحر في العالم القديم أن يكشف المستور، ليكتشف سرّ ما يحتجب وراء الستور. يكشف على المريض، ليكتشف سبب مرض المريض، كي يتمكّن من العثور على ترياق لمداواة هذا المريض.

والمثير أن العربية أيضاً تستخدم كلمة: أتب للتعبير عن الثوب الشفّاف الذي يفضح جسد الإنسان الذي يرتديه. أي أنه يكشف البدن الذي يحجبه، ولكنه لا يحجبه فعليّاً. من كلمة "تب" البدئية هذه استعارت العربية مصطلحاً جسيماً هو: طبّ. لماذا ؟ لأن الطبّ ما هو إلاّ استماتة للكشف عن سرٍّ خبيء، يسكن جرماً، هو اختزال لجرم آخر، هو العالم، بالعثور عليه يبطل العجب، ويسهل استبعاد الخلل بأجناس الترياق، فيتعافى الجرم المصغّر، المختزل للجرم في حجمه الأكبر؛ لأن شفاء العالم رهين شفاء النموذج الذي يختزل جرم العالم.

صفة الساحر، كمستكشف، لا تتحفنا بمصطلح طبّ وحسب، المستعار من كلمة "تب"، أو "أتب"، ولكنه يهدينا مصطلحاً آخر أعظم شأناً، ظللنا نجهل هويّته حتى الآن، وهو: طبع. كيف؟ بقانون الإبدال، أو ما يسمّيه فقهاء اللغة: التعاقب، حيث تضاف العين التي تلعب هنا دور الهمزة كتصغيرٍ شائعٍ للعين نفسها، بدليل أنهما يُكتبان بالعلامة الأبجدية ذاتها (ع = ء) لتصبح الكلمة: طبء، أي تبء، لأن الطاء والتاء بمثابة حرف واحد.

من الطبع هذه استقام لنا إسم أمّنا: الطبيعة (كتأنيث لطبع) الذي نردّده معزولاً عن ماهيّته في الأرومة، فننسى كم هو حميم الصلة بـ الطبّ من جهة، وبـ السحر من جهة ثانية، لننتهي إلى قناعة أدركناها بالتجربة التي تقول بعدم وجود طبّ، أو تطبيب، بدون كشف، وعدم وجود كشف بدون وجود كاشف، يسخّر حياته لاختراق الآفاق، للوقوف على الحقيقية، في البعد المفقود.

وهي ملحمة نبيلة وبطولية يقيناً، ولكنها ليست بدون قرابين عصيّة بالطبع، لأنها مغامرة لا تختلف في جوهرها عن التضحيات التي تتطلبها التجربة الروحية في بعد الحدود القصوى، أي: بعدها النبويّ! تجربة قتل الحواس فيها ليس أقساها، وإماتة الإرادة بصنوف التنكيل البدني ليس نهاية مطاف، ولكن كل مثل هذه التضحيات هي مجرد تقنيات، لأن الإستلهام، أو استدعاء الرؤيا، سعيٌ حرفيّ، لاغترابٍ مميت، لتحقيق بعثٍ بعد ممات، فلا نكتفي بإعجاز الميلاد الثاني، ولكننا نولّد العالم فينا، لا كما ألفناه مغترباً عنّا في ماضينا، في تجربة ولادتنا الأولى، التي أوجدتنا فيه، ولكن لكي يولد فينا هذه المرة، كي نعترف بحلوله فينا، ونقبل انتماءه إلينا.

في هذه المغامرة يستوي الساحر، مع الشاعر، مع الدرويش، كل ما هنالك أن الساحر يمارس الكشف على مستوى الحسّ، الذي تلعب فيه الطبيعة دور البطولة، هذا في حين يتشبّث الشاعر بتلابيب الحدس، لكي يعبر البرزخ إلى الشطر المحتجب من العالم.

أمّا الدرويش فيتعلّق بستور الوَجْد، لتحقيق حلم الإختراق المقدّس.

يروق أول روائي في التاريخ "أبولايوس" الليبي، من مدينة صبراتة الليبية، أن يتغنّى بأنشودة في مديح ربّة الكون، وأمّ الطبيعة الأولى، "تانّيت" فيقول على لسانها: "أنا أصل ما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون، والويل لمن تسوّل له نفسه أن يكشف حجابي". حرمة هذا الحرم شاء هذا الساحر، المتنكّر بقناع الشاعر، وهو الذي لم يرَ يوماً فرقاً بين هذين القطبين، أن يستبيح، فما كان من الخصوم إلاّ أن انتهزوا الفرصة، فأقاموا في حقّه الحدّ، الذي لا يختلف عن الحدود، التي اعتاد أهل الباطل أن يقيموها، منذ الأزل، في حقّ كل مَن انتوى أن يجدّف يوماً في حقّ الربّ.

و"أبولايوس" جدّف لأنه شاء أن يخترق السدّ الطبيعي المنيع، العازل بين عالمنا من جانب، وبين الشقّ المظلم من عالمنا من جانبٍ آخر، لأنه أخفق في النزال مع الإغواء الأبديّ، الذي كان بمثابة كعب أخيلوس في روح شعراء الأزمنة: إغواء الحجاب العصيّ، الذي تتقنّع به الطبيعة، لتخفي عنّا، ما يحسن بنا أن يبقى خفياً عنّا.

هذا الحجاب هو ما شاء "أبولايوس" أن ينتهك ستوره، وهو العليم بحقيقة ربّة الأرباب "تانيت"، التي تعني في لغة أبناء جلدته الليبية: "ذات الأحديّة"، لتستعيرها المصرية القديمة في "نيت"، بإسقاط "تان" الدالّة على: "ذات"، لتُبقي على مبدأ "الأحدية"، عارياً، ثم استعارتها اليونانية في "أثينا"، التي لم تكن سوى "يتُّنَا" الدالّة في الليبية على ضمير الملكيّة، في حال المتكلّم، لأن كلمة "يَتْ" معزولة تعني: "الأحدية الوحيدة، في حين تستعيرها السومرية في "تامات" الدالّة في الليبية على "الأنثى"، لأنها وحدها مبدأ الأمومة الذي أتى بالعالم إلى العالم. وهو ما كان جديراً بأن يستوقف الشاعر، ليستنزل شرارة السحر في روح الإنسان الذي لم يجد يوماً فرقاً بين السحر والشعر، فما كان منه إلاّ أن اعتنق اليقين الذي يؤكد قرانهما المقدّس، ليبدع بهذه الروح أول عمل روائي، شعريّ، سحري، ورثناه باسم "الجحش الذهبي"، استطاع في مغامرته الرائدة أن ينتحل ماهيّة الساحر، لتحقيق معجزة الإختراق، فيغالب مناعة سدّ المحال، كي يجتاز إلى الجانب الآخر، حيث يستلقي البعد المفقود، في فضاء اللامحدود، فاستحقّ اللعنة لهذا السبب، لأن كشف الحجاب، لم يكن ليتحقق بدون قربان. والقربان، في تجربة أبولايوس، كان القبول بهوية المِسخ قدراً، لأن العبور إلى الضفّة الأخرى رهين تحوّل، رهين الإستعداد للتنصّل من ماهيّة حرفيّة، لنيل ماهيّة رمزيّة تتنكّر للواقع الحسّي، وتعتمد بالمقابل الحدَس ديناً، كي يستعير المريد خصال ذلك الحيوان المريب، المسكون بروح إنسان الحديد، الشرير بالسليقة، كما تزكّيه ميثولوجيا التكوين الليبية.

يستعير خصاله الحسيّة، دون أن يفقد مزاياه الروحيّة، مزاياه الأصليّة، التي راهن عليها كمريد، كي يترصّد التجربة، وينصّب نفسه حَكماً على مغامرة التحوّل كلّها، سيّما في بُعدها الحميم الصلة بالهوس الحسّي في ملّة النساء.

وبرغم فنون هذا الجنون بالفُحش، إلاّ أن الخصوم لم يسوّقوا هذا لإنحطاط الأخلاقي كحجّة للنيل من الشاعر، ولكنّهم تشبّثوا بحجّة التجديف في حقّ الطبيعة، عندما اتّهموه بممارسة السحر، ولم يكتفوا، ولكنهم جرجروه إلى ساحة القضاء، لاستنزال القصاص، لأن العبث بناموس الطبيعة هو، في العرف، الخطيئة التي لا تُغتفر. وكان عليه أن يعتكف طويلاً، ليؤلّف كتابه الشهير: "دفاع صبراته" الذي ترافع فيه عن نفسه قائلاً: أنه لم يفعل في الواقع سوى ما كان مستوجباً أن يفعله كشاعر! شاعر ليس له إلاّ أن يلبّي نداءً مفروضاً بقوانين الشعر؛ هذه القوانين السرية التي لا تعترف بغير ما يسمّيه العامّة سحراً، ولكنه في منطق تاسوع ربّات الفنون هو الشعر. فالعالم قمقم مستغلق. الوجود فيه أحجية مُحكَمة في اعتناق الغموض. ولا سبيل لفكّ هذا الطلسم سوى الشعر، الذي يملك حقّ استخدام كل فنّ بما في ذلك ما سمّي سحراً، كي يتحقق الكشف. كشف الحجب، لاستجلاء الحقيقة، التي تعتنق دين البُعد الضائع، ولولا الإمتناع، لما صارت هاجس كل مريد ضمير، ومعشوقةً يتنافس في الفوز بقلبها الساحر والشاعر والدرويش، الذين لم يكونوا في الواقع سوى معدن معجون من طينة واحدها تترجمها كلمة جديرة بهذا الشرف هي: عاشق!

فكيف لا يتحوّل الإبداع سحراً، إذا كان واقع الكينونة نفسه منكفئاً على نفسه، محتفظاً بأحجيته، ممتنعاً عن البوح بسرّه، حريصاً على استغلاقه، ممتنّاً لطلسمانه، مسحوراً بطبيعته؟

وكيف لا يُحرق الساحر على يد محاكم التفتيش، وكيف لا يصلب الدرويش وتقطّع أوصاله، وكيف لا يخضع الشاعر للمحاكمة، إذا كانت خطيئة هذا الثالوث هي التَّوق إلى كشف الحجاب، بهدف استطلاع ما أخفته عنّا الكاهنة التي نصّبتها الطبيعة علينا وصيّاً، وأبَىَ جناب الثالوث إلاّ أن يحيا مهزلته الأرضية بروحٍ شعرية، القرينة للروح السحرية، لأنها حجّة الثالوث اليتيمة لاعتناق حقيقةٍ، مغتربة عنّا، لأنها آلت على نفسها أن تسكن بُعْد الوجود الضائع؟