ما الذي أدخل سؤال سياسيّات الإسلام إلى ميدان التّفكير والتّأليف في الفكر العربيّ المعاصر، في العقود الأربعة الأخيرة، بعد طولِ إهمال؟
هل حصل ذلك في مجرى تطوّرٍ طبيعيّ للدّراسات الإسلاميّة، في ذلك الفكر، وبلوغِهِ حلقةً منها هي حلقة السّياسيّ في تراث الإسلام وتاريخِه، أم حَمَل على الانتباه إليها ما كان يعتمل في الاجتماع السّياسيّ العربيّ المعاصر من مخاضٍ كبير، في امتداد ظهور موجات الإسلاميّة السّياسيّة الحزبيّة على مسرح الصّراعات على السّلطة في البلاد العربيّة وما تولَّد معه، حينها، من حاجة إلى العودة إلى الأصول قصد التفكير في الأسباب البعيدة لجدليّات السّياسيّ والدّينيّ في تاريخنا؟
الأسئلة هذه، ومثيلاتٌ لها، مشروعة بمقدار ما هي ضروريّة لإلقاء الضّوء على هذا المنحى الجديد، في ميدان دراسات الإسلام، في الفكر العربي المعاصر ومحاولة فهمه. ومع أنّنا نسلّم بأنّ الاهتمام بتاريخ السياسة في الإسلام وبنصوص الفكر السّياسيّ الإسلاميّ ليس جديدًا، وأنّ موضوعاته تُنُووِلت – جزئيًّا على الأقلّ – في الدراسات التّاريخيّة، منذ أوائل القرن العشرين؛ كما أنّ نصوص الفقه السّياسيّ والآداب السّلطانيّة والفلسفة السيّاسيّة أُشْبِعَت تحقيقًا ودرسًا جزئيًّا، منذ ستّينيّات القرن العشرين، إلاّ أنّ ذلك ما كان قمينًا بأشْكَلَة سؤال السّياسيِّ في الإسلام – بما فيه سؤال الصّلة بين السّلطة والمعرفة فيه – على النّحو الذي سيُسْتَشْكَل به منذ نهايات سبعينيات القرن عينِه.
ولم يكن في حوزتنا من الدّراسات عن السّياسيّ وعن الفكر السّياسيّ في الإسلام – طوال القرن العشرين وفي غياب دراسات عربيّة وإسلاميّة - سوى ما كتبه الدّارسون الغربيّون المتخصّصون في الإسلاميّات. وهذه دراسات متفاوتة من حيث القيمةُ العلميّة، بمقدار ما تتباين الأغراضُ الحاملةُ عليها؛ من أغراض علميّة إلى أخرى سياسيّة. ولكنّ دراسات المستشرقين هذه، وأيًّا تكُن تحفّظات الكثير منّا عنها، سدَّت الكثير من حاجتنا إلى المعرفة بالتّراث السيّاسيّ للإسلام: فكرًا ونظامًا ومؤسّسات. ولكنّ الأهمَّ من ذلك أنّها نبَّهتْ وعيَ النّخب العلميّة العربيّة، المنشغلة بتراث الإسلام، إلى الحاجة إلى إيلاء مسألة السياسة والسّياسيّ مكانةً معتَبرة في هواجسهم الدّراسيّة، وقد تكون زوّدتِ الكثيرَ منهم بأدوات ومداخلَ منهجيّة لمقاربة المسائل التي قاربوها بالدّرس والتحليل أو هي حرّضتهم على نقدها والاعتياض عنها بأخرى.
ومع أنّي لا أستبعد، تمامًا، أن يكون التّهجُّس العلميّ بموضوع سياسيّات الإسلام – في إطار الفكر العربيّ -منحًى موضوعيًّا في تطوّر اهتمامات الباحثين والدّارسين بتراث الإسلام، إلاّ أنّني أجِدُني أَمْيَلَ إلى الاعتقاد باتّصال التّهجُّس ذاك بأوضاع الحاضرِ السّياسيّ وأسئلته. إنّ ظاهرةً كبرى، في الاجتماع السّياسيّ العربيّ المعاصر، من قبيل صيرورة العامل الدينيّ واحدًا من عوامل السّياسة وصراعاتها، والتّعبيرِ عنه – إيديولوجيًّا ومؤسّسيًّا – من خلال جماعات تنظيميّة، حزبيّة ثمّ قتاليًّة، لا يمكنها إلاّ أن تفرض الحاجة إلى إعادة فحص العمران السّياسيّ العربيّ في أصوله التّاريخيّة، وبالذّات من زاوية الصّلات التي تَنَشّأت فيه بين الدّينيّ والسّياسيّ. وفي النّطاق هذا، فقط، يمكن أن نفهم ظاهرة الطّلب المتزايد على مسألة سياسيّات الإسلام في التّأليف العربيّ المعاصر.
على أنّ واحدةً من أظهر الإشكاليّات في مجال سياسيّات الإسلام، وهي أنماط الصّلة بين السّلطتيْن السّياسيّة والمعرفيّة فيه، إنّما هي من نوع الإشكاليّات التي دخلتْ وعيَ النّخب الثّقافيّة العربيّة من بوّابة تأثير الثّقافة الغربيّة فيه، ومن طريق دراسات المفكّرين والفلاسفة الغربيّين المعاصرين لمسائل الثّقافة والمثقّفين وجدليّات العلاقة بين السّلطة والمعرفة. وحين بدأ الباحثون العرب في الكتابة في هذه المسائل، منذ سبعينيّات القرن الماضي، وخاصّةً في عقديْ الثّمانينيّات والتّسعينيّات، كانوا – بمعنًى مّا – يجرِّبون تدشين منحًى استشكاليّ جديد، في ميدان دراسات التّراث، مستلهمين الأدوات ممّن تناولوا الموضوعات عينِها من المفكّرين الغربيّين، حتّى وإن كانت هواجسُ الأخيرين معاصرة تمامًا وتتعلّق بمكانات الرّأسمال المعرفيّ وأدواره في المجتمع والسّياسة.
لستُ أبغي القوْل إنّ تراثَ الإسلام، أو التراث العربيّ الحديث، خُلوٌ من الاهتمام بموضوع الكُتّاب ومقالاتهم وعلاقاتهم بالسّلطة؛ فلقد كُتِبَ في ذلك الكثيرُ قديمًا وحديثًا، ولكنّي أقصد إلى أنّ جِدَّةَ المسألة عند المفكّرين العرب المعاصرين تَكْمَن في وعيهم بأنّ الثّقافة والمعرفة سلطةٌ تقوم إلى جانب السّلطة السّياسيّة. وهذه فكرةٌ حديثة، تمامًا، وتنتمي إلى الوعي الفلسفيّ الغربيّ الحديث. والباحثون العرب إذ يطرقونها، انطلاقًا من تراث الإسلام السّياسيّ الكلاسيكيّ، فمن باب اختبار نجاعةِ فرضيّةٍ في الفكر جديدة، عسى أن يستقيم وعيُنا أكثر بجدليّة المعرفة والسّلطة في تراث الإسلام.