كثيرون قالوا إن السياسة فن الممكن وفن صناعة الصفقات وإجادة التنازلات، وكثيرون آخرون يعتقدون بأن مسك العصا من الوسط، هو السبيل الأمثل في العمل السياسي والدبلوماسي، باعتبار أن إرضاء الجميع، أو الغالبية، لأن رضا الناس جميعا غايةٌ لا تُدرك، يهدف إلى تقليص عدد الخصوم الذين يمكن أن يعيقوا العمل السياسي أو يعرقلوا إدارة الدولة.

غير أن مبدأ "مسك العصا من الوسط" لا يمثل دائما الحل الأمثل، خصوصا إذا تعلق الأمر بالقضايا المهمة أو المصيرية، إذ قد تكون له مخاطر وخيمة، وهي أن ممارسَه قد يخسر الجميع، لأن موقفه (الوسطي) هذا، لن يكون مُرْضيا أو مقبولا لأي من الأطراف التي يحاول إرضاءها.

يُنقل عن رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة، مارغريت ثاتشر، أنها قالت حينما طُلب منها أن تتخذ موقفا وسطيا في قضية مهمة: "الوقوف في منتصف الطريق يعرضك للخطر. سوف تدهسُك العرباتُ السائرة في كلا الاتجاهين"! وهو حقا قول بليغ، لأن الوقوف في منتصف الطريق بهدف تجنب الاصطدام بالمعارضين أو المنتقدين هو عملية لا جدوى منها، لأن الطرفين السائرين في الاتجاهين المتعاكسين سوف يصطدمان بمن يقف وسطَ الطريق، ويزيحانه من السكة إن لم يقتلاه.

الحكومة العراقية الجديدة لا تمثل كتلةً أو حزباً أو اتجاهاً سياسياً محدداً، بل جيء بها كحلٍّ وسط لقيادة العراق في المرحلة الانتقالية، لكن المؤكد أنها جاءت بسبب ضغط الشارع العراقي على المؤسسة السياسية الرسمية من أجل التغيير، لذلك فإن نجاحها يتحقق في الوقوف مع الشارع، وليس في إرضاء كل الأطراف. لكنها تحاول أن تمسك بالعصا من الوسط، على ما يبدو، فهي من جهة تسعى لأن تلبي رغبة الشعب، ومن جهة أخرى تريد أن تتجنب غضب المليشيات والدولة الأجنبية الراعية لها.

لكن هذا الموقف غير ممكن على أرض الواقع، لأن (الطرفين) في هذه الحالة هما الشعب العراقي، بكل فئاته وتنوعاته، التائق نحو الحرية والانعتاق، والمليشيات المسلحة التي تقتل وتخطف وتبتز وتسرق العراقيين، بدعمٍ، بل بأمرٍ مباشر، من قادة دولة جارة.

من الصعب على حكومةٍ تمثل الشعب وتسعى لحمايته وتمثيل مصالحه وفرض القانون على جميع أفراده دون تمييز، أن تجد حلا وسطا بين هذين الطرفين. ليس هناك موقف يمكن الحكومة أن تتخذه أوضح من الوقوف مع الشعب والقانون والاستقرار والمجتمع الدولي، لكن هذا الموقف يضعها في مواجهة المليشيات.

لا خيار بديلا أمام الحكومة عن المواجهة مع المليشيات الآن، فالتأخير سيكون في صالح المليشيات ومن يرعاها، على حساب الحكومة والشعب العراقي. لماذا؟ لأن المليشيات ستستمر في زعزعة الاستقرار في العراق والمنطقة، ولأنها تسعى لخدمة دولة أخرى على حساب العراق، ولأن مصلحة هذه الدولة، في رأي قادتها المهووسين بالعداء للآخر، القريب والبعيد على حد سواء، تكمن دائما في زعزعة استقرار البلدان الأخرى، كي تبرهن لأتباعها بأن نظامها قادر على الصمود في وجه الصعاب، وأنها قادرة على إحداث فوضى في بلدان أخرى، وتبرز ذلك دليلا على قوتها! فالقوة في نظر حكام إيران هي إثارة الفوضى وإرباك الحياة في الدول الأخرى.

لقد ربّى قادة هذه الدولة أجيالا على كره الدول الأخرى، والثقافات الأخرى، والأديان الأخرى، والمذاهب الأخرى، فهي الوحيدة على حق، في نظر قادتها، ومنهجها هو المنهج القويم والسراط المستقيم وغيرها باطل عاطل. ومع ذلك تريد أن يتعامل معها العالم كدولة طبيعية، بينما هي تواصل تمددها خارج حدودها، عبر مليشيات تدربها وتدعمها في دول أخرى، قريبة وبعيدة، ولا هدف لهذه المليشيات سوى خلق الفوضى وزعزعة الاستقرار وتنمية تجارة السلاح الذي تنتفع منه الدول التي تدعي بأنها تعاديها.

قادة هذه الدولة يستهينون بالنظام العالمي والقانون الدولي والأمم المتحدة ومصالح الدول الأخرى وسيادتها على أراضيها، وربما لا يفهمون بأن الأسس التي يقوم عليها العالم المعاصر هي التقدم العلمي والنمو الاقتصادي واحترام القانون وصيانة الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى واحترام الاختلافات الثقافية والدينية والقومية للناس جميعا.

لسوء حظ العراق أن الجغرافيا وضعته إلى جانب هذه الدولة التي طوقت نفسها بأيديولوجية بالية معادية للحياة والتطور، ولكن ليس مجديا أن يلوم العراقيون قدرهم الذي وضع بلدهم في جوار هذه الدولة، فما يحتاجونه هو الوحدة الوطنية والعمل الجاد والتفاهم والتعاون مع دول العالم الأخرى للحفاظ على بلدهم من جار طامع لا يرى في احترام الآخر قيمة تستحق الاحترام، بل يصر على أن رؤيته للحياة والسياسة والاقتصاد والدين هي الوحيدة الصحيحة، وعلى العالم أن يمتثل لها، ولكن هيهات.

وعلى الرغم من المصاعب التي تسببت بها هذه السياسة لإيران قبل غيرها، إلا أن حكام طهران مصرون على مواصلة النهج نفسه الذي أوصل بلدهم إلى حافة الإنهيار، وجعله يصطدم مع معظم دول العالم.

العراق قادر على الصمود واستعادة زمام المبادرة وفرض الأمن وتعزيز الاستقلال السياسي والاقتصادي، وما يحتاجه هو إرادة سياسية صلبة لا تساوم على الاستقلال والسيادة من أجل رسم طريق جديد للدولة العراقية، يبتعد بها عن التبعية ويوصلها إلى الاستقرار والرخاء وترسيخ دولة القانون.

يوجد في العراق اليوم جيش وشرطة وأجهزة مخابرات واستخبارات وأمن وطني، ويفوق عدد منتسبي هذه المؤسسات المليون منتسب، وكلهم يأتمرون بأمر رئيس الحكومة، ومن لا يمتثل يجب أن يعاقب. لذلك، ليس صحيحا أن تتردد الحكومة في مواجهة أعداء الدولة العراقية، الذين تعرضت أدمغتهم للغسيل على أيدي أتباع الولي الفقيه، كي يقفوا بالضد من مصلحة بلدهم، على عكس ما يفعله مواطنو دول العالم جميعا. يجب أن يعلم هؤلاء وغيرهم بأن الولاء الوحيد يجب أن يكون للوطن والدولة المعترف بحدودها وكيانها وسيادتها دوليا، وليس لأيديولوجية بالية، في عصر لم يعد أحد في الدنيا يدين بالولاء لأيديولوجية سياسية، سوى تلك المتعلقة بإعلاء قيم الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان والعدالة والقانون، ونبذ التمييز والكراهية والعنف، والسعي الحثيث نحو التطور في مختلف نواحي الحياة.

ويضاف إلى هذه القوة العسكرية والأمنية والاستخبارية الهائلة، الإرث التأريخي والثقافي الذي يتمتع به العراق والذي يتمسك به مواطنوه وكل محبيه ومن ينتمي إليه من مواطني العالم، والذي يدفعهم جميعا للدفاع عنه والوقوف معه، وقد بذل الشباب العراقيون الغالي والنفيس من أجل أن يبقى بلدهم مستقلا، فعليا لا شكليا. لقد برهنوا خلال الأعوام الماضية على أنهم أهلٌ لقيادة شعب يتوق إلى حياة عصرية يستحقها بجدارة، وأنهم مستعدون لمزيد من التضحيات في سبيل هذا الهدف السامي.

وفوق كل هذا وذاك، هناك المجتمع الدولي والعالم العربي الذي يقف بقوة إلى جانب العراق، من أجل أن يستعيد عافيته ويعزز استقلاله الذي تحاول جارته الشرقية انتهاكه عبر دعم مليشيات تدعو إلى ذوبان العراق في إيران، وهذا ما لا يرتضيه أحد، لا في العراق ولا في دول العالم الأخرى، التي تعتبر العراق مهد الحضارة البشرية ومنشأ العلوم والقوانين والاختراعات والمدنية، بالإضافة إلى كونه العمق البشري والثقافي والاقتصادي للعالم العربي.

ليس هناك عذر للحكومة الحالية في أن تتردد في مواجهة المليشيات، باسم الشعب العراقي وباسم القانون والمجتمع الدولي، بل عليها أن ترفع دعاوى إلى المحاكم الدولية بخصوص التدخلات الإيرانية في شؤون الدولة العراقية، فتشكيل مليشياتٍ أيديولوجية مرتبطة بزعماء إيران هو تدخل سافر ومرفوض في شؤون دولة ذات سيادة، وهو مخالفة صارخة للقوانين والمواثيق الدولية.

لقد وعد رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، وهو الذي انتخبته الأحزاب الدينية نفسها، بمواجهة المليشيات، وقال إن من يريد إسقاط الحكومة، عليه العمل عبر البرلمان وليس عبر تشكيلات مسلحة ترهب الناس. لم يتمكن العبادي من إكمال مهمته، بسبب مجيء عادل عبد المهدي إلى رئاسة الحكومة بطريقة غريبة ومريبة، فلم يكن مرشحا من أي كتلة برلمانية، وحتى هذه اللحظة، لم يُفصِح رئيس الجمهورية، برهم صالح، عن سبب تكليفه برئاسة الحكومة، ولم يفصح قادة الكتل عن السبب الذي جعلهم يصوتون له ويقرون حكومته التي دمرت البلاد وارتكبت جرائم ومخالفات كبيرة يجب أن تحاسب عليها يوما.

الحكومة الحالية جاءت بسبب انتصار الاحتجاجات الشعبية التي اجبرت الحكومة السابقة على الاستقالة، لذلك يجب أن تكون أكثر جرأة وقدرة على مواجهة القتلة والخاطفين الخارجين على القانون، لأنها تتمتع بتأييد دولي وإقليمي، وسوف تزداد شعبيتها عراقيا وعربيا ودوليا، إن هي أبدت حزما في هذه المسألة. إنها تدين بوجودها للشباب العراقي المنتفض. الانتخابات المبكرة لن تغير الوضع الحالي، إن لم تُلجَم المليشيات التي تدخلت سابقا، وسوف تتدخل مستقبلا، في العملية الانتخابية وتفرض مرشحيها على البرلمان. لا انتخاباتٍ نزيهةً بوجود مليشياتٍ مسلحة. إن مسك العصا من الوسط لن يجدي نفعا، بل هو يعطل استخدامها. العصا تُمسك عادة من طرف واحد، كي تكون مؤثرة، لذلك يجب مسكُها من طرف الشعب، وضرب الخارجين على الدولة والقانون بقوة.