لو تأمّلنا الحرب الأهلية مليّاً، لاكتشفنا أنها الحرب الوحيدة التي يتحوّل فيها الفريق المغلوب غالباً، والطرف الغالب مغلوباً، لأن الفريق المغلوب وحده ينال شرف إيقاف نزيف دم الإخوة، ليضع بذلك حدّاً لاستمرار الحرب.
هذا في حين يُلحق الطرف الغالب الهزيمة بنفسه، لأن أيّ غلبةٍ تلك الغلبة التي نحقّقها في حقّ شقيقٍ لنا في الدمّ، وفي الوطن، وفي اللسان، وفي الإيمان، وفي وجودٍ كلنا فيه هابيل، والكراهة في الصفقة وحدها قابيل؟.
في مطلع 1975 نزلت بيروت، قادماً من موسكو، في طريقي إلى الوطن، لأمثل في حضرة الإنسان الذي تغنّى به إمام الأنبياء، ونصّبه في دنيا الأنام "أنا الثانية"، كما الحال مع ما نسمّيه خلّاً، وهو: صادق النيهوم، المقيم آنذاك ببيروت، ليتزامن وصولي مع حادثة الحافلة، التي أشعلت فتيل حربٍ أهلية استغرقت ما يربو على الربع قرن، ولو سُئلت اليوم عن المنتصر في تلك الخطيئة التاريخية، لعدمتُ الجواب، لأن مَن المنتصر في تلك المذبحة حقاً؟
أحسب أن اللبنانيين أنفسهم سيعدمون الجواب، ولو سئلوا لأجمعوا على حقيقة فاجعة وهي: أن الكل في ذلك النزيف الدمويّ التاريخي المَهول: مهزومين!
والواقع أن هذا هو حال كل الحروب الأهلية منذ اهتدى الجنس البشري إلى هذه الحماقة التي أدمنها تالياً لتكون في دنياه المملّة قيامةً كبرى، بالمقارنة مع ميتة الإنسان بوصفها صيغة لقيامة صغرى، فيما إذا قورنت ببليّة كالحرب الأهلية.
يحدث كل هذا بسبب موقفنا المعادي من ملّة ذلك الإنسان الذي لا نملك للتخلّص منه سبيلاً؛ والغريب أنّنا لا نقتنع بهذه الحقيقة إلاّ بعد فوات الأوان. فنحن نستطيع أن نتخلّص من كل شيء، بما في ذلك من أنفسنا، ولكن هيهات أن نفلح في التخلّص من إنسانٍ نصّبته الأقدار في حياتنا قَدَراً، ليكون لنا في كل شيء شريكاً، مما دعا الأعراف أن تجبرنا على أن نتنازل له عن نصيبٍ من أنفس كنوز وجودنا وهي حريّتنا، لكي ينعم هو بحرية حضوره في حضرتنا، وهو الذي لم يبخل علينا بنصيب من حريّته أيضاً، كي يسترضينا، إيماناً منه بأن صفقة تبادل الحرية وحدها ضمان استمرار السلم بيننا، كأساس لقنطرة وجود، الشراكة فيها رأسمال، ليقيننا بحقيقة الشراكة التي ستبقى هشّةً، ما لم يهرع لنجدتها القربان. لأن التنازل عن النصيب المستوجب من طينة الكنز الأنفس على الإطلاق، وهو الحرية، هو ما يترجم روح التضحية، التي اعتمدتها الأمم في مفهوم، جسيم كـ القربان. وهو ما يملك خصلة استنزال البعد القدسيّ في الشراكة، ليغسل عنها دنس النفع، الرديف لأيّة صفقة دنيوية، القائمة بطبيعتها على الغشّ، أو المكيدة، أي تلك النزعة الشريرة التي استنكرها الإنسان في واقع نشاطه منذ التكوين، وورثناها في مصطلح "تامكارّا" السومرية، الدالّة على التسوية في حرفها التجاري، لا في بُعدها الحرفي كقسمة، ولكن القسمة في بُعدها القدسيّ.
فالشراكة الكينونية رهينة الجود بنزيفٍ روحيٍّ هو الحرية، والحرية تستعير دور القربان، الذي كان منذ الأزل رهين قسمة. في هذه القسمة تسكن ذخيرة ثرية تغوينا باستجوابها.
فإنسان الفطرة يتحفنا بحقيقتها في عبارة شائعة تقول: "قسمة ونصيب" عندما يريد أن يعبّر عن استسلامه أمام حكم القدر. ويجب أن نلاحظ أن القسمة كمفردة ترد كمسلّمة، أي كحُكمٍ قاطع، نهائي، مشفوعٍ بسلطة النحاة الدهاة الذين نصّبوه كمبتدأ تدليلاً على العصمة من أية خطيئة، أي للبرهنة المسبقة على طبيعته القدسيّة، مما ينزّهه عن حضيض مدلوله الشائع، ويستنزله رحاب الملكوت، لسدّ الباب في وجه هواة الجدل. ثمّ.. ثمّ يليه في البُنية المدهشة حرف "الواو"، بهدف التأكيد على نفي الإضافة، وتسويق النيّة في إعفاء الكلمة التي ستلي من التبعيّة، المترجمة عادةً في صيغة المضاف والمضاف إليه، كما يروّج قانون النحاة، قبل أن ترد مفردة الـ "نصيب" منزّهةً أيضاً، بل منزَّلة، بمشيئةٍ غيبيّةٍ حاسمة، لتختتم الحكم بقفل يصير بالترادف مزدوجاً، إمعاناً في التنبيه إلى سطوة التثنية كقدرٍ نافذ المفعول. أي أنها التثنية التي تتغنّى بالعدالة كأنشودة في مديح القدر.
فمن ذا الذي يجرؤ على الاحتجاج في حضرة منطوق حكمٍ، مستصدر بمشيئة "القسمة والنصيب"، دون أن يُرجَم بالتجديف في حقّ ذلك القدر، الذي لم يتردّد إله معبد دلفى في أن ينصّبه حَكَماً مطلق الصلاحية، لا تتدخّل في أحكامه حتى آلهة الأولمب؟
وترجمة الإصطلاح إلى بُعد الحرف هي: "قضاءٌ وقدر". أما في لغة المنطق فترجمة التركيب تعلن وجوب القسمة في كل حال، لأنها وحدها ضمان الحصول على النصيب. وشرط الضمان هنا يكتسب أهمية فائقة يكفل حضور العدالة في موقف القسمة. والدليل تسعفنا به اليونانية القديمة في مفردة Osun المشتقّة من العدالة في توزيع أية غنيمة، والدالة في لغة بدئية كالليبية القديمة على الإقتسام في بعده الحرفيّ، كأنّ وجدان العالم القديم، الحديث العهد بزمن الفطحل، بوصفه شاهد تكوين، يأبَى إلاّ أن يحرّضنا على اعتماد القسمة لتحقيق حلم أجيالٍ هو العدالة، فجمع بينهما في مفردة واحدة، تماماً كما جمع محفل البسطاء بين القسمة والنصيب في قرانٍ واحد لإنجاز المعادلة العصيّة التي ظلّت أحجية في دنيا الأنام منذ الأزل كالحال مع ما غدا قدس أقداس، بفضل القدمة، التي أورثها السلف للخلف المتمثّلة في حرف: العدالة!
فالوجود هبة، ولكنه يبقى رهين قسمة، تهفو للحصول على نصيب من الغنيمة، أي أن الحصول على النصيب رهين القسمة، الواردة هنا كهبة من قدر. ولكن هل هي هبة حقاً؟ بالطبع كلّا! فمشيئة القدر محكومة بحكمة، لأن طبيعته ترفض هبة المجّان، لماذا؟ ببساطة لأن القدر عدالة. القدر ليس عادلاً فحسب، ولكن القدر هو العدالة. ولهذا السبب نقف عادةً عاجزين كلّما أحالنا الواقع إلى جلالة القدر، لنعلم كم هو بكل شيء عليم. فالوجود في عرفه غنيمة يسعى الكل للحصول منها على نصيب. والعدالة في توزيع هذه الغنيمة موقفٌ من وَقفٍ، تقدير هذا الوقف موقوفٌ على مشيئة القدر العليم بما استخفى، ولذا كثيراً ما تدهشنا مكافآت كثيرة لمللٍ ندينها نحن الفانون بأحكامنا الدنيوية، لأننا نجهل ما استخفى من أمرها، ولكن القدر بشأنها هو العليم.
فما هو السبيل لإقامة عدالة جديرة بأن تتبوّأ منزلة الضمان، لكي لا تنشب عداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان على النحو الذي ألفناه في الحروب الأهليّة يا ترى؟.
فالتجربة علّمت القبيلة الإنسانية ضرورة التحلّي بالشجاعة الكافية لتحقيق الزهد في حطام الدنيا إذا شاءت إبطال مفعول أي مكيدة يمكن أن تهدّد كيان النظام القائم في الأساس على القسمة في مفهومها الذي ورثناه في حرف النصيب: نصيبٌ، بكلمةٍ أقل شعريّة، هو: الحصّة؛ الحصّة التي ابتذلتها لغة الحداثة، المسكونة بالروح التجارية، لتستقيم في متداول اليوم في: المحاصصة!
نزعة المحاصصة هي التي ابتذلت القسمة، في بعدها القدسيّ، وانحطّت بمفهوم النصيب، إلى مستنقع الصفقة النفعيّة، لتجرّد التوق إلى الإقتسام من روح القربان، لأنها بالسليقة رهينة قربان.
فناموس العدالة يحرّض على اعتناق روح الزهد عند الحضور في ملكوت القسمة، والتجرّد من روح الغنيمة، كما يتجرّد الحاج إلى بيت الربّ من سَمّ الخِياط.
بقبولنا الإحتكام إلى ساحة القربان، الذي نصبناه قاضياً على مبدأ الشراكة المأمولة، بوصفها الضمان في هيمنة الغنيمة الأسمى وهي السلم، لا يجب أن ننسى أن لا وجود لوجودٍ مشترك بغياب هذا السلم. فالوجع، بالأرومة، ناجم عن الإحساس الأبدي باغتراب القسمة، القسمة في بُعد العدالة، وإضاعة الأمل في جدوى استنزالها من مجال حصونها السماوية، لتحلّ في واقعنا الفاني، بعد أن خاب ظنّنا بوجود حيلةٍ تستبقيها في حدود حضيضنا، دون أن نضطرّ لتسليم زمام أمرنا لأدعياء الزور الذين تغنّوا بمواهبهم في استعارة صلاحيات ربّ السماوات والأرض، لإحقاق ديمومة عدالة، من شأنها أن تديم عمر السلم، ولكننا جرّبنا كيف نفقد الحرية، كلّما انطلت علينا كذبتهم، لنكتشف أننا لم نفقد العدالة وحسب في ظلّ هيمنتهم، ولكننا فقدنا السلم أيضاً، ليتحوّل الحضور داخل محيط الشراكة (التي هي نعيمنا الأرضي الوحيد) جحيماً حقيقياً، ينذر بخوض الحرب الأهلية.
من هنا يفرض السؤال الحاسم نفسه: الخلاف لم يكن يوماً في القبول بمبدأ القسمة، القسمة بعد النصيب، أو ما نسمّيه في لغة الابتذال: المحاصصة، ولكن الخلاف يسكن موضوع القسمة.
فإذا افترضنا أن الخصام يحوم حول رأس الهرم، المدعو في لغتنا الأرضيّة سلطةً، فالواجب يدعونا لأن نستطلع الأفق، قبل الشروع في اعتناق موقف، فنسأل أنفسنا: مَن منّا يستطيع أن يدّعي في نفسه الكفاءة كي يستعير صلاحيات ربّ السماوات والأرض، فيبيح لنفسه احتلال منزلة الربّ لتسيير شئون الظِّلال التي تثقل كاهل الأرض، ولكنها، برغم هوية الظلال، لا تتردّد في أن تهب نفسها حق امتلاك السماوات والأرض وما بين هذين القطبين؟ لهذا السبب كان الحكم دوماً عملاً مستحيلاً، بل هو تجديفٌ صريحٌ في حقّ الربوبية التي لم تفوّض أحداً ليحكم العالم بالإنابة عنها، والبرهان تهديه لنا السلطة المنزّهة بطبيعتها عن القسمة، السلطة التي آلت على نفسها ألاّ تترك مريديها إلاّ موتى، لأنها غير قابلة للقسمة بالسليقة، مثلها في ذلك مثل المرأة!
فكيف السبيل لاستنزال حكم القسمة في بعبع كالحُكم إذاً؟
الجواب سيخيّب ظننا بالقسمة، حيث يدلي بتصريح يقول: لا مجال لاقتسام السلطة إلاّ باستبعاد السلطة من القسمة، مادمنا آمنّا بعدم قابليّة السلطة لمبدأ القسمة، مع القبول بالإحتيال على الجنيّة، بانتداب ساحر، هو القانون، كي ينوب عنّا في الحضور في عرش السلطة.
ولكن القانون شبحٌ، ولا يعوَّل على شبح في إشباع فضول سوادٍ أعظم، إعتاد أن يتلو صلواته في معبدٍ، الصنمُ فيه كيانٌ مجسّد!
هنا لابد من الاحتكام إلى ساحة القربان الذي يستحضر الإحساس بالواجب، ليكون وسيطاً يحثّ على التضحية بأنانية الفوز بحصّة الأسد في الغنيمة، إعلاءً لراية المسئولية الوجودية نحو الأجيال، التي ستنعم بفردوس السلم كمقابل.
تضحية ورثناها عن تقاليد واقعنا البرّي، قبل أن تقودنا الظروف البيئيّة العصيّة إلى عوالم العمران، حيث ينازع الإنسان أخاه الإنسان لإشباع الشهوة إلى الملكيّة، بدل أن يقتسم معه قوتاً مشفوعاً بالحبّ، كما في واقع نظيره البرّي، حيث يُنحر القربان، سواء أكان طريدة، أم أضحية من جنس الأنعام، ليجري تقسيمها بالتساوي بين كافة العائلات المكوّنة للمنتجع، لتتحول الأضحية لا مجرد طعوم تُشبع من جوع، ولكنها تستعير بُعد العهد، المبرم بين السماء والأرض، بين الإنسان وربّ الإنسان، تضمن عدالة الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان وتوطّد رباط السلم: في واقع إنساني رأسماله السلم، ليكون الربّ لا مجرد شاهد على وقائع هذا السلم، ولكن ليكون الراعي لهذا الفردوس المسمّى في لساننا الأرضي، لغتنا سِلماً، لأننا ننال بقدر ما نهب، ونفقد بقدر ما ننهب. وما لم نحكّم في الخصام زهداً، مشفوعاً بحبّ، في سيرورة سعينا، لنيل نصيبنا من القسمة، فإن ما نحسبه غنيمة، يفقد هوية القيمة، وينقلب سبباً للفتنة!
فهل مفارقة أن ينال المغلوب وسام الشرف، في حين يُمنَى الغالب بالهزيمة، في صفقة قسمة، الحَكَمُ فيها هو السّلم؟
بمنطق واقعنا الدنيوي الشقيّ، المهووس بامتلاك ورم الوجود المدعو سلطةً، فقط يبدو الوضع مفارقاً. أمّا بعرف أسمى ما في الوجود، كالحال مع السّلم، فإن القسمة الأحقّ بالخلود، هي القسمة المجبولة بروح عدالة لا أرضيّة، ممهورة بختم الربوبية.
غياب الخصم من ساحة الوغى يسحب من الغالب مؤهلات الغلبة، ويستنزل في حقّه قصاصاً. يستنزل في حقه هوية دون كيخوت! أي هوية البهلوان، المثير للشفقة، إلى جانب السخرية، الذي ينازل الأشباح، محاولاً أن يقنع نفسه بممارسة بطولة.
هنا تنقلب الآية، لأن خيار الاحتكام إلى سلمٍ غايته حقن نزيف الدمّ، يمتلك على الواقع البشري سلطاناً طاغياً، قادراً على استعارة سلطة الغفران على واقعنا الفاني، لأن الغفران يعجزنا، فلا نملك إلاّ أن نخشع، لأنه يُبطل مفعول العداء، ومبدأ المسيح في الجود بالخدّ الأيمن كي يتلقّى نصيبه من الصفع، بعد الخدّ الأيسر، هو أول ترجمة جريئة لهذا السحر المسمّى غفراناً. إنه ليس مجرد إنسحاب من المبارزة، ولكنه نفيٌ لها. نفيٌ يبشّر لا باغتراب أسبابها وحسب، ولكن باغتراب واقعٍ لا يعترف بوجود خصومة، في ظلّ غياب الخصم في الجانب المقابل، لأننا لا نستطيع أن نتخيّل إنساناً يوجّه اللكمات لعدوٍّ مفترض، فيتلقّاها الفراغ، الناجم عن غياب العدوّ من واقع النزال، ما لم يفقد صوابه، فلا يبقى له إلاّ أن يستسلم: يستسلم مكرهاً، لا بطلاً!
ولكن الرهان يبقى مشروطاً بتحرير واقع المعادلة من تلك الأشباح، التي تحترف إدارة العراك الدموي من خلف الستور!