ليست صحيحة تلك السردية التي تتحدث عن أن الوضع في لبنان لن يتغير حتى لو سقطت حكومة حسان دياب وأتت حكومة دون حزب الله. وليس موضوعياً الزعم بأن شبكة الفساد في البلد فاعلة حتى دون حماية من الحزب وسلاحه. وليس بريئا وضع القوى السياسية في لبنان على قدم المساواة في الأداء والمسؤولية على نحو يراد منه، بسذاجة أو خبث، تبرئة إيران وحزبها من الانهيار الاقتصادي التاريخي غير المسبوق للبلد.

لا تستقيم نظرية "كلن يعني كلن" كشرط لإجراء التغيير في لبنان. فالطبقة السياسية في البلد نتاج عملية سياسية تعبر عن مزاج اللبنانيين وتشبههم. وعليه فإن على اللبنانيين (بطوائفهم ومذاهبهم) أن يتغيروا لتأتي الطبقة السياسية التي تشبههم عاكسة لهذا التغيير.

لا يمكن القبول برواية طهرانية لا ترى الحل إلا في عملية "تعقيم" تستأصل الورم من داخل هيكل الإدارة في لبنان. فإضافة إلى طوباوية الرواية في واقع الاقتصاد في العالم، فإنها تفترض من جهة أن الأمر قابل للحصول في ظل طبقة سياسية تحكمه، تنقلب على نفسها وعلى تقاليد الحكم والسياسة المعمول بها (سواء في التوزيع الطائفي لدستور الاستقلال أو في ذلك المعدل في الشكل والمتمسك في المضمون في دستور الطائف)، وتفترض من جهة أخرى أن عملية التعقيم تلك، وفق يوتوبيا حراك الشارع، هي الشرط الوحيد لإنقاذ لبنان وانتشاله من ورطته.

وإذا ما صح ذلك في روايات الأدب الرومانسي أو في متون الأيديولوجيات الثورية القصوى (اليمينية واليسارية)، فإن ذلك لا يتسق مع علم الواقع وقواعد العمل السياسي في إدارة الممكن وإهمال المستحيل. وتشبه الحذاقة تلك (في استحالة سقوفها) ذلك الذي ما فتئ يردده حزب الله منذ سنوات من أنه مستعد للامتثال للدولة والتسليم بها في السياسة والدفاع حين يصل البلد إلى إنتاج "الدولة العادلة". أما عدالة تلك الدولة فيحددها الحزب وفق معاييره لا وفق معايير الدنيا وواقعها الراهن.

لم يكن لبنان مزدهراً في عقود الازدهار لأنه بلد طاهر في ممارسة سياسييه وفنون الإدارة. ولم يكن لبنان ليسجل معدلات نمو، لا سيما غداة الحرب الأهلية وظهور رفيق الحريري وحريريته السياسية، بسبب نقاوة أخلاقية في أداء هيكله الاقتصادي والمالي. فالبلد تجنب الكارثة التي يعيشها اليوم بسبب اعترافه البدائي بالعوامل التي تسمح بتدفق الموارد واتساقه مع قوانين المنطق في السياسة والعلاقات الدولية.

يكتشف اللبنانيون فجأة أن العملة الصعبة التي تحدد مستوى اقتصادهم لها منابع خارجية ولا تنبت في المشاتل البيتية اللبنانية. يكتشف البعض منهم، لا سيما المبشرون بقهر "الامبريالية الأميركية" أن الدولار "الطاهر" الذي يستخدمونه من أجل ذلك ليس عملة "وطنية" لبنانية، وهو بالنهاية ملك خالص تديره وزارة الخزينة في الولايات المتحدة. يكتشفون أيضا أن مصادر دخل البلد في جلها مصدره خارجي، يتوفر إما من خلال السياحة والاستثمار وتحويلات المغتربين وإما من خلال المعونات المباشرة، وأن توقف التدفق الخارجي يقود حكما إلى هذا الاختناق الخطير. يكتشفون باندهاش أن للخارج حسابات ومصالح تحدد سيرورة التدفقات إلى الداخل ومصيرها.

يصادر حزب الله بالسلاح والقوة قرار لبنان على النحو الذي يحوله مكاناً طارداً وليس جاذبا لاستثمارات اللبنانيين قبل الأجانب. يخطف الحزب البلد ويدرجه بنداً داخل أجندة الولي الفقيه في إيران، بما يجعله قاعدة معادية للبيئة العربية المالية التي لطالما ضخت في السابق وفورات مالية دون حساب ودون شروط ودون أجندات. وحين يعلن أمين عام الحزب من لبنان عن قرار تيار الممانعة في المنطقة لطرد النفوذ الأميركي من الشرق الأوسط، فإن في ذلك ما يتيح لواشنطن أن تقرر، ما لم تقرره حين كان الحزب يخطف رهائن أميركيين في بيروت، أن تؤمن بما يؤمن به حزب الله من أن لبنان بات حزب الله.

لن يتغير مزاج هذا الخارج إذا ما سقطت حكومة حزب الله برئاسة دياب لتستبدل بحكومة جديدة لحزب الله برئاسة شخصية أخرى. لم يتغير حزب الله، لكن المشكلة أن العالم تغير، وتغير جدا، ولن يعيد الخارج ضخ الحياة في شرايين بلد يحتضر دون أن تقوده حكومة جرى بالفعل تعقيمها. تلك حقيقة لم تتغير، تعبر عنها باريس بعد واشنطن، ويعرفها سعد الحريري إلى درجة رفضه العودة لترؤس حكومة لا تستجيب لشروط هذا الخارج.

وللخارج شروط بديهية، سواء في واشنطن أو لندن أو حتى بكين، ما زالت بداهتها لم تفهم في طهران ولدى حزبها في لبنان.